بين الجزائر الحضارية العريقة الضاربة في عمق التاريخ، وفرنسا الاستعمارية الاستيطانية الوافدة على التاريخ، بينهما هوة حضارية سحيقة وعميقة، وهي، أي هذه الهوة، في سعتها، وشساعتها أعمق وأوسع من رقعة البحر الأبيض المتوسط جغرافيا.
فالدماء الطاهرة التي أريقت، والنفوس البريئة التي أزهقت، والأراضي الشاسعة التي صودرت، والأعراض الشريفة التي انتهكت، هذه كلها قد حكمت على هذه الهوة الفاصلة بين البلدين، باستحالة الردم.
إن ذاكرتنا المثخنة بالجراح، وأيامنا الملبدة أحداثها بالأتراح، وأجداث مقابرنا التي تعج بأطيب الأرواح، تأبى علينا النسيان، وطيّ صفحة الزمان، والتصالح مع من كانوا سببا في إصابتنا بكل هذه الأحزان.
ذلك –إذن- هو شأن الوطن الجزائري في علاقته مع الاستعمار الفرنسي الذي هو أبو مأساته، ومنبع شقائه وعِلاّته، وزارع المحن والفتن في كل مراحل حياته وتطوراته..
وصدق إمامنا محمد البشير الإبراهيمي عندما وصف الاستعمار «بالشيطان»، فقد جاء الاستعمار الفرنسي إلى وطننا، كما جاءت جائحة كورونا القاتلة، وكما تجيء الأمراض الوبائية حاملة أسباب الموت.
إن الاستعمار بمثابة «الإيدز» أو «السيدا» الذي إذا حل بالجسم الصحيح، قضى فيه على أسباب المناعة البدنية، وإذا ابتلي به شعب من الشعوب، قضى فيه على المناعة الحضارية، فهو يفرغه من فصاحة لسانه، ويشوه فيه كل ما يربطه بعنوانه، ويستأصله من أصوله وبنيانه.
وليت الاستعمار يتوب عن ذنبه، فيطلب الصفح من ضحاياه، ويعتذر لهم عن خطاياه، ويعوضهم، ولو بالقول الطيب عن عواقب بلاياه، بل إن ما راعنا في الاستعمار الفرنسي هو أنه تكررت نزواته، وتكاثرت عداواته، مهما اختلفت أنظمته وحكوماته.
وكمثال على المراهقة الفكرية التي اتصف بها أساطين الاستعمار الفرنسي، يمينا ويسارا المواقف العدائية من الرئيس الفرنسي الحالي الذي خرج من المواقف السرية إلى العلن، ومن لغة الدبلوماسية إلى بث المكائد والفتن؛ ومعاداة كل ما يمت بصلة إلى انتمائنا ممثلا في وحدة الوطن.
فهناك الإسلاموفوبيا التي حمل لواءها الرئيس ماكرون، بمحاولة التضييق على المسلمين، وغلق المصليات، وقمع الأئمة والمصلين.
وهناك الانحياز السافر في القضايا الدولية كقضية فلسطين، والصحراء الغربية، ومالي، وليبيا، وغيرها، ليغيض بموقفه، مواقف الجزائريين.
إلى جانب هذا، جاءت قضية تقليص عدد التأشيرات الممنوحة للجزائريين، وتكريم الحركى الذين خانوا وطنهم، وكل ذلك عدوانا على ذاكرة المجاهدين والوطنيين.
وأنكى المصائب التي أصابت جزائرنا من الرئيس الفرنسي، هو الاعتداء على أصولنا، والمساس بتاريخنا وعقولنا، وتشجيع دعاة النزعة الانفصالية، على نسج المؤامرات لاقتلاعنا من جذورنا.
أهذا جزاء من أطعم الفرنسيين من جوعهم، يوم أرسل إليهم الحبوب، وأنفق عليهم الملايين مما تخفيه الجيوب، وستر عنهم ما ظهر وما خفي من العيوب؟
ألم يقدم الجزائريون –مرغمين- دماءهم في الحروب، التي لم تكن لهم فيها ناقة أو جمل، فأمنوا فرنسا من الجوف، في البر والبحر، فحموها من القراصنة، وأبعدوا عنها الأبالسة؟
وماذا كان الجزاء عن كل هذا؟ نفي الوجود الحضاري عنا، ومعايرتنا بالجيش الانكشاري ضدنا، واعتبار الوجود العثماني استعمارا واحتلالا لنا.
كبرت كلمة تخرج من أفواههم، إن يقولون إلا كذبا، فالعثمانيون الذين جاءوا إلى الجزائر لم يجيئوا محتلين مستعمرين، وإنما جاءوا بدعوة من الجزائريين عام 1586، موجهة إلى السلطان العثماني سليم الأول لمساعدتهم على دحر العدوان الصليبي الإسباني، فكان القائد البحري خير الدين بربروس المسلم الذي استقبله الجزائريون استقبال الفاتحين.
ولم يؤخذ على العثمانيين الذين جاءوا إلى الجزائر بطلب من أبنائها، لم يؤخذ عليهم أن قاموا بالقتل أو التدمير، ولم ينهبوا ثروات الجزائريين الذين كانوا ينعمون بالخير الكثير.
لم يفرض العثمانيون علينا لغتهم، وليس فينا اليوم من يتحدث لغتهم، ولم يحاربوا معتقدنا، ولا حتى مذهبنا، فالجزائر كانت قبل العثمانيين مالكية، وبقيت بعدهم مالكية.
كان العثمانيون مسلمين، فلم يلغوا العمل بالشريعة الإسلامية كما فعل الفرنسيون، ولم يحولوا مساجدنا إلى كنائس كما فعل المستعمرون، ولم يقضوا على لغتنا وإبدالها بالفرنسية التي لازلنا نعاني إعاقتها إلى اليوم، في ألسنتنا، وفي إدارتنا، وفي بعض عقولنا، مما أكسبنا داء فقد المناعة الثقافية، والحضارية بسبب الغزو الفرنسي، وها نحن نعاني من بعض المنسلبين الذين هم بقايا الاستعمار في مجتمعنا.
وإذن، فماذا ينبغي أن يكون موقفنا من هذه العدوانية، التي جردتنا من مليوني سنة من تاريخنا؟
ألا يحق لنا، أن نعمل بمبدإ الدفاع والحماية عن وجودنا، وحدودنا، وبنودنا؟
فإزاء الألفاظ المهملة التي تقوّل بها وتغوّل علينا الرئيس ماكرون، من حقنا أن نتصدى لحماية ذاتنا، من قطع لكل العلائق التي تربطنا بمن يعتدي علينا.
يجب أن نفك الارتباط الثقافي مع ثقافة المعتدين، فنعود إلى ذاتنا الحضارية الإسلامية، لنعمقها، ونكون العقل الجزائري على ضوئها.
كما نحن مطالبون بإلغاء الاتفاقيات الاقتصادية، والتجارية، مع الشركات الفرنسية، حتى لا تتغوّل علينا سياستها من جديد، فننوع العقود، ونعدد العهود، ونحصن الوجود، ولن نكون أبدا من الظالمين.
﴿وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَٰئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ، إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾[سورة الشورى،
الآيات 42-41]