إنني لتعروني، هزة حبّ، في ذكرى مولدك يا رسول الله، فتبعث في عقلي نخوة، وفي قلبي نشوة، هما نخوة الإقتداء، ونشوة الإباء بالانتماء.
وإنه لتسري في جسمي قشعريرة، هي قشعريرة الرهبة لذكرك، والاعتزاز بإتباع فكرك.
فليس من محض الصدفة، أن تكون يا رسول الله، مبلغا عن الله لأقدس التعاليم، ومجسدا لأعظم الأقانيم.
لقد أديت الأمانة، وبلغت الرسالة، فنصحت الأمة، وكشفت الغمة، وجاهدت في الله حق الجهاد، حتى أتاك اليقين.
أنصفك العقلاء والحكماء، من أبناء الإنسانية فبوّؤوك المنزلة الأولى بين العظماء، ولكن ظلمك السفهاء، واللقطاء، فشوهوا صورتك وسخروا من عظمتك، ألا ساء ما يحكمون!
واليوم إذ تحل ذكرى مولدك بيننا فماذا نرى؟ عالم مريض صحيا، تتقاذفه الأوبئة فتتفاقم ويلاته، وتتضاعف أزماته، وتشتد مصائبه ومعاناته.
إنه عالم يحصد ما زرع، بتحلُّلِه من القيم، وسقوطه في الرذائل، وما يصاحب ذلك من بلاء، وشقاء وألم.
ونلتفت إلى أمتنا الإسلامية، مشرقا، ومغربا، فتتراءى لنا، ذهنية القطيع، بسبب التخلف الفضيع، والإتباع الوضيع.
أمتنا التي هي خير أمة أخرجت للناس، أصبحت خاضعة للوسواس العالمي الخناس، فيسومها أسوأ الناس الخسف، ويدفع بها إلى اليأس.
لقد أصيبت أمتنا في القلب والرأس، فأصبح يحكمها البأس الشديد واليأس، واستبدلت الذي هو أدنى بالذي هو خير؛ ووضعت مقاييد أمورها، في يد الغير، ضاعت منها المقدسات بسبب إتباعها أسوأ السياسات، والنأي بها عن قانون المؤسسات، فتحول الأعداء إلى أحلاف، والأشقاء إلى أخلاف، زجّ بالعلماء والمفكرين داخل السجون، ومُكِّن للرعاع من العتاريس والمزيفين من حملة الذقون.
انقلبت إذن كلّ المفاهيم، وضاعت من العقول أفضل التعاليم فسطا على الحكم، كل مستبد، وكلّ ظالم، وكل زنيم.
وفي وطننا الجزائر، الذي كان مضرب الأمثال بما قدم للعالم من نماذج الشهداء والعلماء والأبطال أن هذا الوطن الغالي، الذي استبدت منه العصابة في أحلك الليالي، قد أنتجت لنا في عهدها، من يجرؤ على سب الإسلام، والنيل من خير الأنام، فلا يخجل ولا يبالي.
من كان يظن أن الجزائر بلد الأمير عبد القادر والإمام عبد الحميد بن باديس، قد يخرج فيها من أصلاب هؤلاء العلماء الأفذاذ، من يتبجح بسب الرسول، ومن يتطاول على الإسلام، فيتواطأ مع البعض بالسكوت أو بالقبول.
ويح وطني مما يعانيه، من زعانفته، وأزلامه، والمارقين عليه من ظلامه، أبعد المد جزر، وبعد الخير شر، وبعد الربيع حر، وبعد الصحة ضر؟
حدث هذا ويحدث بسبب الردة العقدية والخيانة الوطنية، وانعدام القيم الخلقية، فسادَ بذلك العنف الرهيب، والقتل العجيب، والختل المريب، والاغتصاب الغريب..
فبعدما ودعنا سياسة العصابات، ها نحن أمام حرب العصابات، في الأحياء وفي المؤسسات والمحلات. ما كنا –علم الله – ، نسمع باختطاف الأطفال في ديننا وما كنا نتصور التنكيل بالقتيل من أبناء جيلنا، ولا الاعتداء على الأساتذة من طلابنا وتلاميذنا.
ومن هنا نتفهم عدل الله في ما أصابنا، فهذا القحط في المزروعات، والجدب في المدخولات، والبطالة في المؤسسات، والغلاء في المبيعات، إن هي إلا أنكى ما أصابنا الله به من العقوبات.
ويصدق فينا قول الإمام الشافعي:
ومن نزلت بساحته المنايا
فلا أرض تقيه ولا سماء
وأرض الله واسعة ولكن
إذا نزل القضا ضاق الفضاء
دع الأيام تغْدِرُ كل حِينٍ
فما يغني عن الموت الدواء
فمن يقتل فتاة في عمر الربيع كشيماء، ويحرقها بدم بارد بعد موتها، لن يذوق طعم الجنة، لأنه فقد الإله في قلبه وعقله.
والذين يقتلون المواطن البريء في حيدرة، ويقطعون يده، من أجل استغلال بصماته لسرقة سيارته، فمثل هؤلاء، فقدوا كل معنى للوطنية، وللإسلام، وللأخلاق.
وتتراءى الأمثلة البشعة، التي تطالعنا، بها الأحداث كل يوم، لتؤكد لنا مدى ما أصاب الأمة في جيلها من يأس وإحباط.
أبعد كل هذا يخرج علينا من يطالب بإلغاء الحكم بالإعدام، باسم حقوق الإنسان، وهل إعدام الحق في الحياة للأبرياء ليس من حقوق الإنسان؟ وماذا نقول لأم شيماء الثكلى، وماذا نقول لصاحب السيارة الذي قتل وقطعت يده، وسرقت سيارته؟ أليس لهؤلاء حق في حقوق الإنسان التي يتبجح بها المطالبون بإلغاء حق الإعدام؟
إن دلّ هذا على شيء فإنمّا يدُلّ على انعدام الوازع الديني، الذي يحصن الإنسان بالقيم ضد الجريمة، ويزرع في الإنسان منذ النشأة، العفة، والصدق، والأمانة، التي تردعه عن العدوان وأكل مال الإنسان، والتواطئ لخيانة المواطنين وحقوق الأوطان.
وماذا نقول لمن يفتي ببدعية الاحتفال بالمولد النبوي الشريف؟ أليس في إحياء المولد تذكير لنا بالقيم التي بشّر بها الرسول وأشرف على تطبيقها بواسطة الصحابة؟
إن إحياء المولد النبوي الشريف، لا يكون بالطبل والمزمار، وإنما يكون بالمواعظ والأذكار، لنعيد للأفكار، نموذجية الخلق الإسلامي في نقاء وصفاء، وإخاء وافتخار.
فيا رسول الله..
إن الظلم والظلام، والظلامية، قد طوقتنا فأصبنا، بالقمل، والضفادع، والدم، وسلط علينا الوباء، والجوع والألم، فلمن نشتكي ونحن لا نستطيع أن نفتح فم؟
فيا ربنا- وأنت الملاذ من كل ما منه يستعاذ.
إنا منا الصالحون ومنا دون ذلك، وإنا منا القاسطون وقد ضاقت بنا السبل، وأعيتنا كل الحيل، جد علينا يا الله، بعفوك، وغفرانك وبيّن لنا أفضل الحلول والحلل.
إلهي، أغلقت –في وجوهنا كل الأبواب، فلم يبق إلا بابك، وحيل بيننا وبين أفضل الأسباب، إلا أسبابك، أعد إلينا الأمل بعد القنوط، ومكننا من النهوض بعد السقوط، وأنر لنا طريق الحق المستقيم، حتى نكف عن الهبوط.. فإليك يا رب المشتكي والمفزع.