مؤسس أقدم جامعة في العالم ..امرأة مسلمة -إعداد. هبة رحالي *

للمرأة المسلمة إسهامات كبيرة في المجال العلمي والشرعي، نجحت المنظمات النسوية ـ إلى حد ما ـ في تجهليها حين قررت الإلحاح على استيراد مشكلات المرأة الغربية، وتصديرها لمجتمعاتنا، باعتبارها أزمات حادة، تستهدف المرأة دون الرجل.
لكن الواقع والمنجزات عبر التاريخ: تكذب هذه الرؤية النسوية الظالمة، فمؤسسة جامعة الأزهر بمصر وقف لامرأة (خديجة الخازندارة)، ومؤسسة جامعة القاهرة ساهمت في إنشائها امرأة (فاطمة بنت الخديوي إسماعيل)؛ بلومؤسسة أقدم جامعات العالم ساهمت في بنائه امرأة؛ هي فاطمة الفهرية.
وفاطمة بنت محمد الفهري ـ رحمها الله ـ التي كانت تكني بأم البنين، أو أم البنين الفهرية، نزحت وهي فتاة صغيرة مع العرب النازحين إلي أقصي المغرب، ونزلت مع أهل بيتها في عدوة القرويين، زمن حكم إدريس الثاني، حتى تزوجت وطاب لها المقام هناك.
كان زوجها وأهلها يعملون بالتجارة؛ وحققوا ثراء كبيرا، ومكانة اجتماعية وسمعة طيبة، ولم يكن لأبيها محمد بن عبدالله الفهري، من الأولاد سوى بنتين هما: فاطمة ومريم، أحسن تربيتهما، واعتنى بهما حتى كبرتا، فلما مات ورثته ابنتاه.
وحين رأت فاطمة: أن مسجد القرويين يضيق بالمصلين، فأعادت بناءه؛ مما ورثته من أبيها في عهد دولة الأدارسة في رمضان عام245هـ، وضاعفت حجمه بشراء الحقل المحيط به، من رجل من هوارة، وضمت أرضه إلى المسجد، وبذلت مالاً وفيرا برغبة صادقة، حتى اكتمل بناؤه في صورة بهية، كانت لافتة في زمانها.
ويقول الدكتور عبد الهادي التازي، في رسالته لنيل الدكتوراه: إن “حفر أساس مسجد القرويين، والأخذ في أمر بنائه الأول كان بمطالعة العاهل الإدريسي يحيى الأول، وأن أم البنين فاطمة الفهرية، هي التي تطوعت ببنائه وظلت صائمة محتبسة إلى أن انتهت أعمال البناء، وصلت في المسجد شكرا لله”.
والمسجد الذي بنته فاطمة الفهرية، يعد أقدم جامعة في العالم، وقد سبقت جامعة الزيتونة بتونس، والأزهر بمصر، كما أنها تُعدّ أقدم من جامعات أوروبا بمئتي عام.
هذه الجامعة تخرّج منها العديد من الأعلام المسلمين والغربيين، كما كان لهذه المؤسسة دورها السياسي، إلى جانب دورها التربوي والعلمي؛ فلقد أشار علماء التاريخ الإسلامي إلى أنّ اتخاذ القرارات السياسية الحاسمة من بيعة وحرب وسِلْم، كانت تخرج بتوقيعات علماء جامع القرويين.
وفي زمن الحملة الفرنسية على المغرب سنة 1912م، كان جامع القرويين مركزاً للمقاومة؛ حتى قال عنه الجنرال الفرنسي: “لوي هوبير كونزالف ليوتي” بعدما لقي من شدة بأس أهله وروّاده: “لا استقرار لنا في المغرب إلا بالقضاء على هذا البيت المظلم” يقصد جامع الفرويين!
وكان جامع القرويين الذي بنته الفهرية: النواة الأولى للمدرسة في الحضارة الإسلامية، لما له من ميزة في طلب العلم، وتعليم علوم الشريعة والقرآن، وفروع العلم؛ مما جعلته مصدر التوجيه الروحي والمادي لجميع الدول العربية.
وأصبح جامع القرويين الشهير، أول معهد ديني، وأكبر كلية تضم المواد الأدبية والعلمية، مثل: النحو، والجغرافيا، والتاريخ الإسلامي، والمنطق والحساب، والرياضيات، والطب، والكيمياء، والفلك، مما جذب إليه الكثير من الطلاب، حيث بنيت كمؤسسة تعليمية، وتعتبر أقدم جامعة أنشئت في تاريخ العالم بالمغرب بفاس، نسبة لمدينة قيروان، ولا زالت تدرس حتى اليوم، حيث تخرج فيها العديد من علماء الغرب، وقد بقي الجامع والجامعة الملحقة به: مركزا للنشاط الفكري والثقافي والديني، والقلعة الإسلامية الأولى التي تحمي الحضارة الإسلامية.
ولقد أسهمت الجامعة في بناء الشخصية الإسلامية، من خلال حملها لواء الأصالة والتجديد، ومحافظتها على الثوابت الدينية، فضلا عن حمايتها للثقافة الإسلامية التي طبعتها الجامعة بالطابع المغربي الأصيل. فكان للجامعة دور كبير في نشر العلوم والفنون، حيث يمثل رسالة حضارية، حافظت على معالم الشخصية الإسلامية.
وكما كان للجامع دوره العلمي والتثقيفي والحضاري كان له دوره الاقتصادي أيضا، حيث يذكر المؤرخ عبد الهادي التازي في كتابه “جامع القرويين: المسجد والجامعة بمدينة فاس” حيازة جامع القرويين لأوقاف، جعلته مستقلاً مالياً عن خزينة الدولة، لدرجة أن غدت ميزانيّته تنافس ميزانية الدولة.
وتعتبر خزانة القيروان من أهم الخزانات العامة بالمغرب، بل في العالم كله، أسسها السلطان أبو عنان المريني الغنية بالكتب والمخطوطات العلمية.
وقد واكبت المد المعرفي المتنوع والعلمي المنشود، الذي عرفته عبر قرون، والذي حرص عليه الملوك بالمغرب، على تزويدها بكل المخطوطات العلمية النادرة.
ومازالت جامعة القرويين تقوم بواجبها أحسن قيام، ويستمر إشعاعها مشعا على العالم الإسلامي لمدة قرون من الزمن، وكونت بذلك أجيالا من العلماء الكبار، الذين لا يزال عطاؤهم وإنتاجهم العلمي والفكري قائما، ينهل منه الباحثون جيلا بعد جيل؛ بفضل الله، ثم بفضل ما أنجزته هذه المرأة العظيمة فاطمة الفهرية التي توفيت عام 265 هـ الموافق1180 م. رحمها الله وأسكنها الفردوس الأعلى.