الانتخابات: بين ما هو كائن، وما يجب أن يكون

الأصل في الانتخابات وفي كل الدساتير والقوانين العالمية، أن تُبنى على الطهر، فلا تُنجّس، وأن تحاط بالقدسية فلا تُدنّس، وأن تقام على الحرية والشفافية، فلا يصيبها تلوث أو تجسس.
إن الانتخابات في حقيقتها إدراك وفهوم، يستوي في ذلك الحاكم والمحكوم، والإمام والمأموم، والأمي العامي، وصاحب العلوم.. فهي ليست مجرد ممارسات للحقوق والواجبات، أشبه ما تكون بالطقوس والعادات، وإنما هي ثقافة سياسية يصاحبها وعي، وقيم خلقية يتبعها سعي، فإن لم تكن كذلك، فهو الانحراف، والفساد، والبغي.
نقول هذا، ونحن نرى أعراض الحمى الانتخابية قد لاحت، فأحزاب قد جاءت، وأخرى قد ناءت. فالبعض يرفع شعار الإدارة، والعمارة، والإنارة، والآخر يغرى بالإثارة، و”الشكارة” تفاديا للخسارة، وتعويضاً للنزاهة، والكفاءة، والمهارة.
هكذا، وبدل أن يكون الانتخاب، كما هو في حقيقته رمزاً للوطنية، والانتماء، وحسن الانتساب، تحول عندنا إلى تنابز بالألقاب، وإلى مثير للاضطراب، بل وإلى الانتحاب داخل الأسر والعشائر وبين الأحباب.
لماذا تبدو هذه الأعراض عندنا، دون باقي العالمين؟ ولماذا نحن دون غيرنا، نصاب بهذه الهشاشة في العلاقات، والسلوك المشين؟
يحدث هذا بسبب المقدمات الخاطئة، التي ينطلق منها تنظيم الانتخابات، فبدل أن نبحث عن تجسيد الشعارات، في النزاهة والإخلاص والكفاءات، تتدخل المحسوبية والعشائرية، وفساد الذمة الوطنية والمالية، وبذلك نفرغ دساتيرنا ومواثيقنا من محتواها الصحيح، ونعرّضها للتشويه والتقبيح.
ثم تأتي خطوة الحملة الانتخابية، فتتدخل بذاءة اللسان، والقذف في الأعراض بدون أي برهان، والتشنيع على المنافسين، باليد، والمال، وباللسان.
فإذا جاء الحسم بالصندوق، ظهر التزوير، وديس على كل الحقوق.. ومن نجا من بلبلة الصندوق، اصطدم من جديد بكل أنواع العقوق، لاستئصال البعض من العروق.
ولا تسأل عن النتائج، فلها، هي الأخرى عدة مخارج، ومناهج، ولا يبقى في الأخير، إلا ما هو من البداية “خارج” بالرغم من المعارج.
هذه – واحسرتاه، مراحل الانتخابات كما يصورها الراسخون فيها، والذين اكتووا بنيرانها، فأحرقتهم نيرانها، وأقضتهم لياليها، ولا تسل عن مصير الطعون، فكل ذلك إنما هو ذر للرماد في العيون.
إذن هذه هي الانتخابات، كما هي كائنة في واقعنا المر، أما ما يجب أن يكون، كما تنص عليه دساتيرنا، وقوانيننا، ومعتقداتنا، فهي الحرية بأدق وأعمق معانيها، حرية الترشح، وحرية المنتخب، والمراقب، وخاصة حرية القائم على الفرز. فالترشح أو الترشيح، ينبغي أن يخضع للمصلحة الوطنية العليا، فمن ملك “النزاهة، والكفاءة، والالتزام” هو الذي نقدمه، حتى ولو كان مخالفا لنا، في الإيديولوجيا، أو القناعة السياسية، أو الطريقة الحزبية، فالعبرة بمصلحة الوطن قبل كل مصلحة.
أما لجنة الإشراف على الاقتراع، فيجب أن يتولاها، أهل الحل والعقد السياسي، والديني، والاجتماعي، ذلك أن محراب الانتخابات، يقتبس من محراب الدين، لا يتولاه إلا المطهرون، عقدياً، ووطنياً، وأخلاقياً، واجتماعياً، ولا عبرة بما يكون عليه أهل الحل والعقد، من مذهبية دينية، أو إيديولوجية وطنية.
إننا لو التزمنا بهذه المعايير في الانتخابات، لجنبنا الوطن فتناً ومحناً، ولوضعنا مصيره على سكة صحيحة، كفيلة بأن تقودنا جميعاً إلى الاستقرار، والانتصار.
إن هذا ما يحدث في البلدان المتقدمة، التي ترفع شعار الديمقراطية، فما كان الناس يتوقعون فوز دونالد ترامب، ولكن الشفافية والحرية الانتخابية، أهَّلَتاه إلى أن يكون رئيس البيت الأبيض.
وما يحدث بالقرب منا، في فرنسا، يوشك أن يمكن للعنصرية اليمينية، الفاشية، من الصعود في ذهول الفرنسيين الأحرار، والشرفاء من العالم. واللافت للانتباه أن النتائج عندما تعلن في هذه البلدان، سيقبل بها المنتصر والمنهزم معاً، ولن تكون هناك طعون، لأن الجميع يسلمون بنزاهتها.
فلماذا لا نقلد أعداءنا، في هذه المنهجية على الأقل، لنتعلم منهم حسن إدارة الانتخابات، وأدب الاختلاف مع الخصوم، والتسليم بما تفرزه الصناديق حتى ولو كانت مفاجئة في نتائجها للجميع.
فهذه الطريقة في تنظيم الانتخابات هي التي جنبت بلدانهم أنواع الصدام والعنف، ومكنتهم من أن يضعوا مصلحة وطنهم فوق كل مصلحة، فهم يعملون مع الفائز، حتى ولو صوتوا ضده، لأن العبرة بالبناء، لا الهدم.
وكان الأولى أن نكون، نحن المسلمين، أحق بهذه القيم، والمبادئ التي ينادي بها ديننا، وطبقها سلفنا الصالح، بقيادة العلماء العاملين بعلمهم من أهل الحل والعقد.
ومحنتنا أننا، نقدر الرئيس الأمريكي المنتخب، عندما يتلو الإنجيل مع القسيس، قبل توليه الحكم، ونضحك على من يطالب بتطبيق القيم الإسلامية في المعاملات.
نحن لا نغرق في التشاؤم، ونريد أن نكون متفائلين، هذه المرة، فنستيقظ على نتائج الأخطاء السابقة، ونعمل على التقليل من الخسائر ما أمكن، ونضرب على أيدي العابثين بالأصوات، والمشترين للذمم، والمحابين للبعض على حساب البعض الآخر.
إن هذا الرجل الذي وُضع على رأس اللجنة العليا للانتخابات، رجل يشهد له بالخير، ونأمل أن لا يحدث العكس، فهو أمام امتحان عسير، وعند الامتحان يكرم المرء أو يهان.
فندعو الله لبلادنا، أن يجنبها شر المصير، وأن يرزقها النخبة الصالحة التي تدل على الخير، وتعين عليه، وإن علينا إلا البلاغ، وقد بلغّنا، فاللّهم فاشهد!