العلامة محمد الصالح الصديق : عقود من الإبداع والتألق- بقلم عبد الحميد عبدوس
في الشهر المقبل يكون شيخ الكتاب الجزائريين العلامة الأديب محمد الصالح الصديق قد بلغ 91 سنة من عمره المبارك، (19 ديسمبر 1925 ـ 19ديسمبر 2016)، وتعود علاقتي المتميزة بأستاذي الكاتب الأديب الشيخ محمد الصالح الصديق إلى ما يقارب خمسة عقود من الزمن، أي منذ أن أكرمني الله تعالى بالتتلمذ عليه في نهاية ستينيات القرن العشرين في ثانوية ابن خلدون ببلدية الحمامات غرب العاصمة، وهي الثانوية التي كان يديرها العالم المجاهد عبد المجيد حيرش، تلميذ الإمام عبد الحميد بن باديس، عليهما رحمة الله، فقد تفضل أستاذي بإهدائي العديد من مؤلفاته العامرة بكنوز المعرفة والحكمة الزاهرة بأسلوبه الجذاب المشرق الذي يعتبر نموذجا لما اصطلح على تسميته في فن الكتابة العربية بـ” السهل الممتنع” .
وتقديرا للإسهام الكبير الذي قدمه عميد الكتاب الجزائريين المعاصرين العلامة المجاهد الأستاذ محمد الصالح الصديق، في إثراء الثقافة الجزائرية، قررت وزارة الثقافة في مبادرة حميدة لتشجيع النشر، وتكريم كبار المبدعين، طبع الأعمال الكاملة لصاحب (مقاصد القرآن) والتي صدرت السنة الفارطة (2015) فيما لا يقل عن 51 مجلدا من الحجم الكبير عند دار هومة للنشر والتوزيع.
يعتبر الأستاذ الأديب محمد الصالح الصديق هرما ثقافيا حيا، ومفخرة للثقافة الجزائرية، بل للثقافة العربية الإسلامية في العصر الحديث، تجاوزت كتبه المطبوعة المائة كتاب، اقتحم عالم النشر بإرادة وموهبة نادرتين منذ ربيع شبابه الباكر، ففي سنة 1951 (أي قبل 65 سنة) أصدر كتابه الأول، وهو ما يزال طالبا في جامع الزيتونة في تونس، رغم صعوبة ظروف النشر، ولكن صدوره أعطى دفعا معنويا وامتيازا أدبيا لهذا الشاب النابغة الطموح، الذي انتزع إعجاب زملائه وأساتذته في جامع الزيتونة، ثم جاء كتابه الشهير “مقاصد القرآن” في سنة 1955، وهو الكتاب الذي أدخله في كوكبة المؤلفين المرموقين على المستوى العربي والإسلامي، وبشر بنضوج موهبة أصلية وثرية تألقت على مدى أكثر من نصف قرن في ميدان الفكر، والفقه، والثقافة، والأدب، والنقد، والتاريخ… ذلك هو العلامة الأديب الأستاذ محمد الصالح الصديق، المولود في 19 ديسمبر 1925 بقرية أبيزار، بدائرة عزازقة، ولاية تيزي وزو، زاول تعليمه الابتدائي في مسقط رأسه على يد والده المرحوم الحاج البشير آيت الصديق، الذي عين إماما لقرية أبيزار لمدة أربعين سنة، بعد أن قدم إليها من قرية إبكرين مسقط رأسه، وقرية البطل الشهيد مراد ديدوش، حفظ القرآن الكريم وعمره 9 سنوات، أخذه والده الشيخ البشير في نزهة إلى العاصمة في ربيع سنة 1934م. والتقوا بإمام النهضة الجزائرية المرحوم الشيخ عبد الحميد بن باديس، ولما علم الإمام بأن الفتى محمد الصالح حفظ القرآن وهو لم يتجاوز السنة التاسعة من عمره، وضع يده على رأس الصبي، وقرأ قوله تعالى:{وَأَنزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً}[النساء:113].
ولا عجب أن يكون لبركة القرآن الكريم الذي حفظه العلامة المجاهد الشيخ محمد الصالح الصديق وهو في صغره، وخدمه على امتداد عمره، ودعاء الإمام عبد الحميد بن باديس له في أول لقاء له به أطيب الأثر في مسيرة التفوق والتألق لـ “عقاد الجزائر” كما يطلق عليه في الوسط الثقافي.
شارك الأستاذ محمد الصالح الصديق في الثورة الجزائرية منذ اندلاعها في الفاتح من نوفمبر 1954 إلى غاية تحقيق النصر في جويلية 1962، وكانت مشاركته بالسلاح والقلم، وخدم الثورة في جبهة الإعلام، والسياسة، والدبلوماسية، كما ساهم في بناء الجزائر بعد استرجاع الاستقلال في مجالات التعليم، والتربية، والثقافة، والشؤون الدينية والإعلام، وكان كما قال عنه المرحوم الشيخ عبد الرحمن شيبان رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين السابق: “طاقة ثقافية، أدبية، تربوية، أخلاقية، دينية، وطنية، عرفته في جميع أطواره أديبا تستهويه العبارة البليغة أكثر مما تستهوي السبيكة الذهبية الغني البخيل…”
إن فكرة جمع الإنتاج الأدبي والفكري والتاريخي للأستاذ محمد الصالح الصديق في إصدار مترابط ومتسلسل، ومتكامل يسهل للقارئ اقتناء والعودة إليه، والاستفادة من أفكاره ومعارفه بأسلوبه وفصاحة لغته هي فكرة جديرة بالتقدير والتنويه، لأن هذه الأعمال الكاملة هي “فضاءات واسعة لشتى العلوم والمعارف، فيها قوة الأداء مع الصحة، وسمو التعبير مع الدقة، وعمق الفكرة مع الحلاوة، والمحظوظ من اقتناها، والسعيد من رحل فيها، وحلق في أجوائها، واستنار بأضوائها”.
ومن الشهادات البليغة التي أدلى بها بعض علماء الجزائر ومفكريها حول مميزات إنتاج الأستاذ محمد الصالح الصديق، ومكانته الثقافية نورد شهادة الدكتور عبد الرزاق قسوم، رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، الذي يقول بمناسبة تكريم الأستاذ محمد الصالح الصديق في المكتبة الوطنية في سنة 2008 بوسام العمداء: “…إن مما يتميز به محمد الصالح الصديق في إنتاجه هو التنوع المعرفي داخل الوحدة الثقافة، فهو ذو منهج صاعد، يربط بين قضايا الإنسان في الأرض، وأحكام وحي السماء، تعددت جوانب الإنتاج لديه، فهو يستلهم من وحي السماء مقاصد القرآن وما احتوت، ومن الينبوع النبوي جوامع الكلم وما شملت، إلى الغوص على ضوء ذلك في كهوف الوطن العجيبة، وما احتوت من الدروب الحمر، ومعاناة اللهب والجمر، إن على من يريد أن يدرس محمد الصالح الصديق أن يقرأ عناوين كتبه ليستبطن أولا الروح التي نفخت، والملكة التي أنتجت، والإرادة التي صممت وجسدت”.
أما الدكتور محمد العربي ولد خليفة رئيس المجلس الشعبي الوطني فيقول عنه في تقديمه لكتاب “رحلتي في مقاصد القرآن” للأستاذ النائب إسماعيل ميرة ما يلي: “…مؤلف مقاصد القرآن الأستاذ محمد الصالح الذي يستحق لقب الشيخ بالمعنى النبيل والعريق، هذه الكلمة التي تطلق على العالم المرجح ولا علاقة لها بالسن، فقد بقي الرجل شابا في عقله وروحه، ودائم الأناقة في مظهره، وهو قدرة في المثابرة قل نظيرها، ومثال للتواضع، مستلهما الآية الكريمة:{وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً} [الفرقان:63].
قد يرشح البعض من ذوي البصيرة الشيخ الصديق إلى درجة الدكتوراه الفخرية في فرع من فروع علوم الدين والدنيا، وقد يهتم أولو الأمر بالشاهد على قرنين أطال الله عمره فيوضع اسمه على معلم يليق بمقامه”.