التربية في البلدان العربية مصدر للعجز التحرّري
ترجمة: لمباركية نوّار
تقديم:
ظهر هذا المقال الذي يلخص نتائج استقصاء ميداني، أول ما ظهر، باللغة الإنجليزية تحت عنوان أصلي، هو: “في الدول العربية، لن تستطيع التربية أن تكون مدرسة للاستسلام”. ومن ثَمَّ، جرت ترجمته إلى اللغة الفرنسية بعد أن تُوّج بعنوان جديد هو العنوان المثبت أعلاه: ” التربية في البلدان العربية مصدر للعجز التحرري”. ويشي الفرق البائن بين مقصدي العنوانين بالشيء الكثير؟؟.
كانت التربية، وما تزال وستظل من بين أهم القضايا ذات الصبغة الوطنية الصرفة نظرا لشدة ارتباطها بقيّم الوطن التي تطبع خصوصيتها وتصنع استقلالها. ولكل دولة سياسة أو نصيب من السياسية التربوية التي نعمل على دربها من أجل المحافظة على ديمومة هُويتها الوطنية وتراثها الفكري والثقافي والاجتماعي، وقيّمها وثوابتها، ونقلها نقلا لا يعتريه تشويه أو مسخ أو تحريف إلى أجيالها المتلاحقة التي تؤم مدارسها. ولذا لا يجوز أن يسمح بمد أيدي الغرباء إليها، ولاسيما من حيث توجهاتها الكبرى التي يعبر عنها بالنوايا والأغراض.
يتراءى لي أن المنهج “النمطي” الذي ارتكز عليه كاتب المقال، والذي تبنته المنظمة العالمية لسبر الآراء حول القيم (WVS) لم يكيّف تكييفا يناسب القيم السائدة والمتوارثة بين الأجيال في الوطن العربي بسبب تراجع في الفهم نشب عنه خلط بين ما هو من صميم الدين الإسلامي وما هو من المكتسبات الاجتماعية. فالمؤشر الذي ينص على (مساندة القيم الدينية التي تتضمن التمييز ضد النساء) هو مؤشر لا يمكن الوثوق فيه وثوقا كليا يصل إلى حد التسليم؛ ذلك لأن الدين الإسلامي سطر باكرا قواعد رفعت من مكانة المرأة في المجتمع قبل أن تظهر نضالات النساء في الغرب. وما قد يُحسب نقائص في هذا الجانب يعود، في أصله، إلى رماد رواسب اجتماعية بالية.
وجدت كاتب المقال يسخّر مصطلح: “القيم البطريركية Les valeurs patriarcales”، مما يعني أن ثمة افتراقا بين النظرات إلى هذه القيمة التي يراها الكاتب قيمة بمواصفات كنسيّة محضة، وبكل ما لهذه اللفظة الأخيرة من انتماء قاموسي وبذور وجذور وتشعبات. ومن أجل إحداث المواءمة الفكرية المنشودة بين مضمون المقال وبين ثقافتنا العربية ـ الإسلامية، اضطررت أن أتصرف في ترجمتها، وقابلتها بمصطلح:”القيم الدينية”؟؟.
كان حظ المقال من حيث التقاط الفائدة المرجوة منه مرشحا للارتفاع لو روعيت الملاحظة السابقة، وأرفق بتوضيحات، ولو كإحالات يعود إليها القارئ، عن سلالم المعايير المعتمدة حتى يكون للفوارق المشار إليها في حصائل القيّم المتابعة مدلولات تطرد ظلال الغموض التي تحيط بها.
وكيفما كان الحال، فإنني اعتبر هذا المقال من نوع المقالات التي ينبغي قراءتها بحاسة نقدية يقظة ومشحوذة؛ لأن قضية التربية هي من بين أم القضايا في كل الأوطان. وأن النظر إلى أية منظومة تربوية بعيون الآخرين لا تجلب الاطمئنان والراحة على الدّوام.
المقال
تركّز النقاشات المتعلقة بالتربية في ربوع الوطن العربي، وبصورة نادرة جدا، على دور المدرسة في تطوير العادات السياسية والاجتماعية. وفي معاينة باعثة على الأسى، تبيّن، إلى حد ما، أن المواطنين المثقفين في البلدان العربية، على وجه العموم، أقل تحررا بكثير، على الصعيدين السياسي والاجتماعي مقارنة بمواطني البلدان الأخرى من العالم. وإذا ما وعت المؤسسات العربية الانفتاح بأكثر ما يمكن، ورغبت أن تمسي أعلى حيوية اقتصاديا، فينبغي عليها أن تعرض نظاما تربويا يدمج القيم الضرورية لهذا الهدف، ويزيد من رفعتها.
ينكشف هذه العجز عند منظمة: ((The World Value Survey التي تقوم بسبر الآراء على المستوى العالمي، وتسمح بمقارنة مجموعة عريضة من القيم بين مختلف الدّول. وحديثا، أدارت هذه المنظمة دراسة تعلقت باثني عشر (12) بلدا عربيا: الأردن، مصر، فلسطين، لبنان، العراق، المغرب، الجزائر، تونس، قطر، اليمن، الكويت وليبيا إضافة إلى سبع وأربعين (47) بلدا خارج دائرة العالم العربي. وتسمح لنا نتائج عملية السبر المذكورة، ولأول مرة، بمقارنة ذهنية جزء كبير من العالم العربي مع نظيرتها في بقية سكان كوكبنا.
قاس سبر الآراء هذا أربع قيم سياسية واجتماعية كاشفة للغاية، وهي: دعم الديمقراطية، إرادة الارتباط بالحياة المدنية، الإذعان للسلطة، وكذلك مساندة القيم الدينية التي تتضمن التمييز ضد النساء. وبشكل عام، ومن منطلق أن دولة حينما تمسي أكثر غنىً، وأكثر تعلّما، ومتفتحة سياسيا بمقدار أكبر، فإن قيمتي دعم الديمقراطية وإرادة الارتباط بالحياة المدنية تزدادان فيها ارتفاعا. بينما يشاهد تراجعا في الميل إلى الخضوع للسلطة ومعاضدة القيم الدينية.
حينئذ، وحتى بالنسبة لدول تبدي مستوى تطوّريا مماثلا، فإن الدول العربية تظهر، وحسب هذه المعطيات، نزوعا إلى احتلال مؤخرة الترتيب. وتُقيم الشعوب العربية الإثبات على تفضيل متدن للديمقراطية (بفارق يساوي 11%)، وتبدو مدنيا أخفض نشاطا (بفارق يعادل 8%)، وتفضل احترام السلطة (بفارق يعادل 11%)، وتؤكد قبول القيم الدينية بحماس فائض (بفارق ملفت يعادل 30%).
هناك مظهران مميزان للعالم العربي يسمحان بشرح هذه الأرقام: فشعوبها هي شعوب ذات أغلبية مسلمة، والحكومات الاستبدادية تربعت على تسيير الجزء الأعظم من المنطقة على مدار السنوات الخمسين الأخيرة.
حسب منظمة ((The World Value Survey، فإن المعتقد الديني يميل، قلبا وقالَبا، إلى ترقية التقاليد، ولكن من غير أن يكون ذلك بصورة أكثر زيادة في الدول العربية مقارنة ببقية دول العالم. ويبقى أن درجة تديّن الشعوب العربية يعادل تقريبا ضعف تديّن باقي شعوب العالم. ويفسر هذا العامل، ولو جزئيا، الوجه المحافظ للمنطقة. ولكن المظهر الأكثر أهمية يتبدى في الدور الذي تلعبه التربية ـ أو الذي لا تلعبه ـ في ترقية التفتح الاجتماعي والسياسي على مستوى العالم العربي.
تستقر الفروقات الكبرى بين الدول العربية وبقية دول العالم في جانب من يتابعون دراسات. فهل نحلم في هذا النطاق أن يشكل ذلك مفاضلة فيما يخص الديمقراطية. وفي هذه النقطة، فإن الفارق بين ذهنيات الأشخاص المتحصلين على شهادة جامعية في دولة عربية بالنسبة لأولئك الذين تحصلوا على نفس الشهادة في دولة أخرى يرتفع إلى 14%، ومع فارق 5% فقط في حالة الشهادة الثانوية. وتلاحظ حقائق مشابهة حول القيم الثلاث الأخرى. وهكذا، يبدو أن التربية على مستوى الدول العربية تحدث تأثيرا طفيفا على القيم الاجتماعية عما يجري خارجها في العالم، وبزيادة تقارب الثلث.
إنها الحجة، وعلى أولئك الذين يبحثون عن الرفع من الانفتاح في حضن العالم العربي ألا يركزوا جهودهم لجلب الفائدة على الأثر الذي يمارسه الإسلام، ولكن من باب الأسبقية أن يركزوا على التربية التي تمنحها المنطقة لمواطنيها. وفي الحقيقة، فإن شرحا محتملا للفارق الملاحظ في جانب القيم الاجتماعية يكمن في تربية تستغل إراديا كوسيلة للترشيد، وذلك بهدف دعم الحكومات الاستبدادية.
مع بروز التربية الجماهيرية العريضة في ستينيات القرن الماضي، وُضعت التربية على مستوى العالم العربي، واقعيا، في خدمة المشاريع الوطنية في القمة ووجهت نحو أسفل الهرم. وبعدئذ، وفي السبعينيات، وبعد إخفاق جهود التحديث التي بادرت بها الحكومات، ونظرا لكون الحكومات قد بدت رادعة أكثر فأكثر، فإن السياسات التربوية قد تشبعت بالقيم الدينية والتقليدية في زمن أول بغرض محاربة مجموعات المعارضة المتوجهة نحو اليسار، ومن ثَمَّ منافسة المجموعات الإسلامية في الساحة التي يحتلونها.
تظهر ملاحظة سريعة للأدب التربوي المستعمل من طرف الأنظمة التربوية للمنطقة، تظهر كيف صُممت هذه المؤلفات لأغراض الترشيد. وفي الحقيقة، تتميز أغلب هذه الأنظمة بتعلم عن طريق الحفظ البسيط، وقلة اكتراث بالقدرات التحليلية، وتشدد زائد مع القيم والمباحث الدينية، مع انصراف عن تعبير الفرد عن الفائدة من الطاعة، وكذلك غياب إشراك الطلاب في القضايا التي تخص المجموعة. وقد صيغت هذه المميزات بغرض إعلاء الإذعان، والعزوف عن مساءلة السلطة.
يمكن أن يبدو الأمر متناقضا لما يكون عدد من الأنظمة العَلمانية مسؤولة على أسلمة التربية. ويجد ذلك معناه، على الأقل، لما نقر بأن هذا المسعى هو محاولة تقتنص استغلال الخصائص الثقافية المحلية بهدف تمتين جهد الترشيد(وقد جرى شبيه ذلك في الصين). وليس من الفعل البنائي رمي التوبيخ على الثقافة المحلية التي ورثتها المجتمعات بقدر كبير. وإن مجرد قبول أن الأنظمة الاستبدادية تمنع طوعيا تحديث التربية ـ من أجل استمرار ديمومتها الخاصة ـ سيجعلها تغادر المواقع الأمامية بأسرع ما يمكن.
من المؤسف، أن تتجلى طريق الذهاب إلى الأمام هذه، وعلى مستوى العالم العربي، أن تتجلى ضيقة. ولا ينبغي الانتظار حتى تقدم النخب بحيوية على إصلاح التربية إذا كان هذا المسلك سيضع حياتهم في خطر. ومن الضروري أن يقاوم ممثلو المجتمع المدني في سبيل تطوير القيم التي يتضمنها النظام التربوي في بلدهم، وتشجيع الارتباط بالحياة المدنية، وغرس مبادئ ديمقراطية في الأذهان، ومناصرة المساواة بين الجنسين، وكذلك ترقية التنوع والتعدد. ولا يمكن للقيم أن تثّبت جذورها إلا بشرط سهر المجتمع المدني على مستوى كل مؤسسة تعليمية. وعندما تتقوى هذه الجذور بقدر كاف، فستعمل على تطوير قدر المجتمعات العربية.