غير مصنف
يتيم في أمّ القرى

كانت قريش تعرف لعبد المطلّب نسبه فيها، ولكنّهم يؤذونه بألسنتهم إذ لم يكن له من الولد ما لهم ولا يحرص على جمع الحطام من الدنيا كما يحرصون. ولكنّ بطولته الكبرى، يوم واجه أبرهة الحبشي وطغيانه، غلبت كبرياء قريش فرأوا أنّ البطولة فيه جبلّة وفطرة -ومن عادات الناس المعلومة إجلالهم لمن يحمي ذمارهم ويعمل على بقائهم-، وعلموا أنّه ليس كأولئك الذين يتقدّمون في ساعات اليسر حتى إذا اشتدّ الخطب تواروا.
تعلّمت قريش أنّ البطولة ليست قوّة تبطش بالمستضعفين وتؤذي الفقراء، ليست سيفا بتّارا ونصلا قتالا، ولكنها شرف أصيل وقلب جليل، وعزّة مكينة وحكمة رصينة. إنّها المغرم وليست المغنم.
لم تجعل بطولته تلك منه جبارا، بل زادت قلبه رقة، فجلس يوم الاثنين بدار الندوة وعيناه تتطلّعان إلى خبر قد يأتيه من حجرة ابنه عبد الله. كانت أرملة ابنه آمنة بنت وهب تنتظر مولودها، فإذا بالجارية تأتي مسرعة تعثر في أثوابها وتناديه قد رزقت وليدا لم أر جبينا أزهر من جبينه، ولم أعهد وجها أنور من وجهه، ولم أحمل وليدا أجمل منه.
وفاضت عينا عبد المطلب دمعا وهما اللتان أرعبتا الأشرم، وأسرع إلى البيت ليحضن اليتيم الجديد. وقد تنازعت قلبه عاطفتان جليلتان إحداهما باكية على ابنه عبد الله الذي مات من قبل والأخرى مبتهجة بمن سيملأ دنياه فسماه “أحمدا”، ولم تمض ست سنين حتى توفيت أمه، ثم قضى جده عبد المطلب بعد أمه بسنتين، فكان أبو طالب هو الذي يكفله.
وقد سجّل القرآن الكريم في بيانه المعجز تلك السيرة كلها في أربع كلمات هنّ ((أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى))الضحى 6، فكانت تثبيتا للرواية التاريخية، وتأكيدا لها.
ولأهل اللغة استنباطان دلاليان أحدهما يحمل على حقيقة اليتم وهو من وفاة الأبوين، والآخر يحمل على المجاز وهو “من قولهم درة يتيمة، والمعنى ألم يجدك واحدا في قريش عديم النظير” كما يقول الطبري في تفسيره.
ومن يعيد النظر في سير الأنبياء ليلفينّ عددا منهم قد كانت تلك صفة منشإه، كمثل يوسف عليه السلام إذ كان يتيما من فقده أمّه وموسى عليه السلام الذي كان يتيما من فقده أبيه، وكلاهما أظهره الله، وكان له الشأن في تصحيح عقيدة قومه وشرفهم.
في يوم الاثنين الحادي عشر من ربيع الأول ولد العشرات في مكة، والمئات في بيوت العرب، والآلاف في الأمم الأخرى، ولكنّه يوم يذكره تاريخ الانسانية لأنّ محمدا بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ولد فيه. وقد روى مسلم عن أبي قتادة الأنصاري (( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن صوم الاثنين فقال فيه ولدت وفيه أنزل علي)) كتاب الصيام رقمه 1162.