نصيحة الفضيل الورثيلانيّ إلى القائمين على الجمعية بقلم الشيخ أحمد ظريف
« لقد قام الفوج الأوّل من رجالنا الذين شيّدوا جمعية العلماء بهدم الضلال والباطل هدما شغلهم عن كل شيء، ولكنّهم قاموا بذلك ومعهم زاد عظيم من الذخائر الخلقية الإسلامية، تعاون على تثبيتها فيهم: 1- الفطرة السليمة. 2- والتلقين المحكم، ولو اعتمدوا على علمهم الغزير وبيانهم البليغ وحدهما لما نجحوا في هدم الضلال العريق والبدع المستحكمة، أمّا هذا الجيل الناشئ في معمعان الحركة، فقد فتح عينيه في غبار المعركة وشهد مراحل الانتصار، ولكنه لم يفقه أسباب النصر وأسلحته النفسيّة فظنّ أن ذلك الهدم هو الغاية، وأنّ معاوله هو العلم والبيان، فالتفت إليهما، وسعى في تحصيلهما وغفل عن السلاح الحقيقي للهدم والبناء معا، وهو قوّة الروح ومتانة الأخلاق واستكمال الفضائل، وأن الهدم ليس مقصودا إلا للبناء، وأن البناء لا يتمّ إلا بوسائله الصحيحة وأدواته، وأنّ القدرة على الهدم ليست دليلا على القدرة على البناء، وأن أسلافنا ما أعلوا ذلك البناء الشامخ للإسلام إلا بعد أن بناهم الإسلام على فضائله، وطبعهم على أخلاقه وهيّأهم للاستخلاف في الأرض، ولهذه الغفلة عن هذه المعاني قلّ نصيب هذا الجيل منها، وأخشى أن تؤدّي الغفلة عنها إلى ضعف فيها، ويؤدي الضعف إلى تحلّل وانهيار، ونكون قد هدمنا باطلا ولم نبن حقّا، بل نكون قد هدمنا الباطل والحقّ معا، وهي أخسر الصفقات»
فأين يجب أن يكون عضو جمعيّة العلماء؟
المسلم بصفة عامّة يكون طالب علم بتوجيه النصوص الشرعية: « طلب العلم فريضة على كلّ مسلم» فهو طالب علم…وقد يصل به الطلب إلى درجة يصبح فيها عالما في هذا العلم أو ذاك، فما هي هذه الدرجة؟
من الضوابط التي اعتمدتها الجامعات الإسلاميّة القديمة كالأزهر والزيتونة: منح شهادات علميّة كالتطويع والعالميّة تمنح للطالب بعد اجتياز امتحان، ويوازيها في الجامعات الأخرى شهادات علميّة= ليسانس- ماجستير- دكتوراه.. في مختلف العلوم: أدب- طبّ- اقتصاد- اجتماع- علم النفس- بيولوجيا… وزادت معاهد العلوم الإسلاميّة شهادات أخرى في: علوم القرآن: تفسيرا و… وعلوم الفقه: أصولا ومقارنة، وعلوم الحديث والدعوة و…
ومن المصطلحات في تاريخ الإسلام العلميّ عبارة: فلان مشارك في هذا الفنّ أو… وهناك أيضا الإجازات العلميّة في هذا الفنّ أو ذاك، فهل يمكن أن تكون إحداها معيارا قابلا يقاس به عضو جمعيّة العلماء؟ كيف، وهناك عصاميّون لا يحملون شهادة، ومنهم الشيخ نعيم النعيميّ الذي ترجم له الإبراهيميّ وختمها بأنّ هذه شهادة. وأعظم بها شهادة.
وفي المقابل فقد نجد من يحمل شهادة جامعيّة، وهو أمّيّ في العلوم الأساسيّة، أين هذا مـمّا يطلبه ابن باديس من الطلبة الراغبين في الالتحاق بدروسه؟ أن يحفظ 15 حزبا على الأقلّ؟ فنرى أنّ حفظ القرآن من واجبات قيادات الجمعيّة. ويحسن الرجوع إلى قانون الجمعيّة الأوّل وتتضمّن المادة السابعة الآتي:«الأعضاء العاملون هم الذين يصح أن يطلق عليهم لقب عالم بالقطر الجزائري بدون تفريق بين الذين تعلموا ونالوا الإجازات بالمدارس الرسمية الجزائرية وبين الذين تعلموا بالمعاهد العلمية الإسلامية الأخرى«.
بين الصبر وبين الاستكانة
الاستكانة من السكون، والسكون ضدّ الحركة، نقول: سكن أي توقّف عن الحركة، واستكان، أي افتعل السكون، والاستكانة تعني الذلّ والخضوع، وذلك لا يصحّ إلا في حقّ الله تبارك وتعالى كما تبيّنه الآية الكريمة من قوله تعالى في ذمّ أقوام:{فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ}
أمّا في غير ذلك فقد نهى عنها القرآن الكريم، ومدح أقواما لم يستكينوا في سبيل الحقّ ووصفهم بالصابرين. قال الله تعالى: {وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ}[آل عمران:146].
وهذه وقفة مع آية من كتاب الله تبارك وتعالى نزلت عقب أحد حين انكسر فيها المسلمون وأصابهم ما أصابهم من الذهول والاضطراب، فبيّن لهم الله تعالى أنّ ذلك بما كسبت أيديهم، وأنّ فيه الخير الكثير في العاجلة والآجلة، ومن هذا الخير توضيح صحيح لمفهوم الصبر وأنّه غير الاستكانة، وهو المفهوم الذي يحتاجه الناس في كلّ وقت وحين، ونحن في أيّامنا هذه أشدّ الناس احتياجا إليه، لما أصاب المسلمين من أهوال وأمواج من التكالب الظالم، المتمثّل في أشكال وألوان شتّى: حملات عاتية من إعلام التضليل والتشكيك، وحصار محكم متعدّد الجبهات، وابتزاز، واستفزاز… حتّى صارت كلّ الأعمال تتمّ بإشارة وتوجيه أولئك الظالمين من تعليم، وإعلام، وإعانة للمحتاجين، ونصرة مزعومة ومسمومة للمظلومين، فلا يتمّ شيء منها إلا برضاه وتحديده للجهة الممنوعة والأخرى المقبولة، دون مراعاة ولا اعتبار لأمر الله تبارك وتعالى، وباختصار هي كما جاء في الحديث النبويّ الشريف:” فتن كقطع الليل المظلم ” جرّت الكثير من المسلمين إلى الوقوع في فهم خاطئ للصبر، فجعلوا الوهن والضعف والاستكانة صبرا، وجعلت بعضهم يتخلّى عن أمور معلومة من الدين بالضرورة، بحجّة الصبر على هذه المحن، ويسكتون عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يأتيه شياطين الإنس جهارا نهارا على مرأى ومسمع من الجمع الكبير: في الشارع في السوق في الحافلة في.. يسرق السارق ويقتل القاتل وتخرّب المنشآت العمومية وتجرّد المرأة ممّا تحمل، وتجرّ من شعرها وتصفع وتنتهك حرمتها، ويضرب الضعيف، بل ويقتل، فلا يتحرّك أحد للنهي، ولا حتّى لحماية ونصرة المظلوم العاجز، فازداد بذلك استفحال الشرّ والعدوان. ويسكتون عنه بحجّة عدم التدخّل في الشؤون الداخليّة ففتحوا الباب للأجنبيّ لينفّذ مشاريعه:{وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً}[النساء:66].
فهل هذا إلا استكانة ممقوتة؟ نهى عنها القرآن، وبماذا يفسّر ذلك التخاذل؟
إن هو إلا وهن وضعف، ضعف أمام قوّة وهمية، يظهرها ذلك الذي يأتي المنكر يتحدّى الجميع، ويجعلهم يخفضون رءوسهم ذلاّ وخنوعا. إن الشيطان بواسطة أوليائه من البشر يدفعهم إلى القيام بالمنكرات من باب الاختبار، فإن وجدوا إنكارا من جماعة المؤمنين توقّفوا أو اختفوا، وإن وجدوا استكانة ولامبالاة ازدادوا، ووسّعوا المنكر ووزّعوه، وهذا هو الواقع اليوم، تفاقم أمرهم وعلا شأنهم حين استقال المجتمع- جماعة المسلمين- من مهمّته ورسالته التي لها سلطان كبير في كل المجتمعات، وهي من الأوامر الجازمة:{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ}[التوبة:71].
أمّا الصبر فهو الثبات على المبادئ، والحرص على سلامتها من التحريف والتزييف، والقيام بما أوجبه الله تبارك وتعالى من أمر بالمعروف ونهي عن المنكر، وتقبّل تبعاته بصورة جماعية، وله نتائجه العاجلة والآجلة، وعن تعرّض هذه المبادئ لكلّ ألوان التحريف يقول الأستاذ مالك بن نبيّ رحمه الله بقوله:”كلما لاحت في العالم الإسلامي أي بادرة ذات مغزى، ولو كانت لا تبصرها عيوننا، فإن مجهر أولئك الأخصائيين يلتقطها على الفور، ليجري عليها كل طرق التحليل، وإذا وجدوا أي اتصال بحركة الأفكار في العالم الإسلامي تجرى عليها كل عمليات التشريح، وتمر بكل أصناف التقطير، حتى يبقى في محتواها الاجتماعي أقل ما يمكن من عوامل التيسير لصلاحيتها، وأكثر ما يمكن من عوامل التعسير وانتفاء الصلاحية».