قضايا الأمـــة
اتفاق وقف إطلاق النار في سوريا..هل يمكِّن أمريكا وروسيا من إنهاء الحرب الأهلية؟ بقلم أ. حسين لقرع

تشهد الأحداث في سوريا تطوّراتٍ متسارعة منذ أسابيع عديدة؛ فبعد فشل مفاوضات “جنيف 3” قبل أن تبدأ، واشتداد المواجهات المسلحة في مختلف الجبهات، ساد الاعتقاد بأن التسوية السلمية قد فشلت نهائياً ولم يعد هناك مجالٌ لإنهاء الأزمة إلا بتحقيق الحسم العسكري لصالح أحد الطرفين، مع أولوية واضحة للجيش السوري بسبب الدعم الفعال الذي يتلقاه من الطيران الروسي منذ 30 سبتمبر الماضي، والذي غيّر الأوضاع جذريا
على الأرض، لكن وزيري خارجية أمريكا وروسيا أعلنا فجأة منذ أيام قليلة توصلهما على اتفاق لوقف إطلاق النار في سوريا، ما يمنح بارقة أمل في إنهاء النزاع الدامي بهذا البلد والسير نحو عملية سياسية.
كانت كل المؤشرات تؤكد أنه لم يعد هناك أيّ مجال للحل السياسي في سوريا، وأن الحلّ سيفرضه أحدُ الطرفين على الآخر بالقوة وانتهى الأمر، بمعنى أن الصراع كان صفرياً بين الطرفين طيلة 5 سنوات، ولا مجال للاتفاق بينهما على أسس التعايش المشترك مستقبلاً. وتكرّس هذا الاعتقاد أكثر بعد كل فشل المساعي السلمية التي بُذلت طيلة السنوات الخمس من عمر الصراع، آخرها انهيار مفاوضات “جنيف 3” قبل أن تبدأ، وتعثّر الهدنة التي أعلنت عنها الأطراف الدولية في ميونيخ مؤخراً، وكان مقرراً أن يُشرع في العمل بها في الأيام الماضية، فضلاً عن تهديد السعودية وتركيا بإرسال قوات برية كبيرة إلى سوريا ضمن تحالف عسكري إسلامي يضم قواتٍ من نحو 20 دولة، وبدأ بعض المتتبعين يتحدثون عن حرب إقليمية واسعة ستأتي على الأخضر واليابس بالمنطقة وتُلحق أفدح الأضرار بدولها جميعاً، وقد تكون مقدّمة لإعادة رسم خريطة المنطقة وتفكك دول وبروز دويلات عديدة على أنقاضها، وزاد القصفُ التركي بالمدفعية للمناطق الكردية المتاخمة لحدوده، من تعزيز المخاوف بقرب اندلاع الحرب البرية…
لكن، وفي عزّ التوتر والتصعيد، أعلن جون كيري ولافروف، وهما وزيرا خارجية الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا، التوصلَ إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في سوريا، يشمل النظامَ ومختلف فصائل المعارضة المسلحة، مع استثناء “داعش” و“جبهة النصرة” وتنظيمات أخرى متحالفة معهما، من هذا الاتفاق والاستمرار في محاربتها إلى غاية القضاء عليها.
وفور إعلان الاتفاق، وجّه جون كيري تهديداتٍ شديدة اللهجة إلى المعارضة السورية، وحذّرها من مغبة رفض الاتفاق ومواصلة الحرب، وقال إنها ستواجه “الجحيم” في هذه الحالة، وهو تهديدٌ صريح بالانقلاب عليها والشروع في قصف مواقعها بالطيران الأمريكي، وإجبار حلفائها الإقليميين على قطع كل المساعدات المالية والعسكرية التي ما فتئت تتدفق عليها منذ 5 سنوات كاملة ودون انقطاع. وينسجم هذا التهديد الخطير للمعارضة مع تصريح كيري منذ أسابيع بأنه لن يحارب روسيا من أجل المعارضة السورية، وأن هذه المعارضة تواجه خطر الإبادة في غضون ثلاثة أشهرٍ فقط، إذا لم تقبل بتسوية سياسية للأزمة.
ومع أن التهديد الأمريكي دفع المعارضة السورية إلى الرضوخ وإعلان قبولها اتفاق وقف إطلاق النار، إلا أن فصائل عديدة ومنها “أحرار الشام”، رفضته ما دام يستثني “جبهة النصرة”، ما يعني أن الاتفاق لن يسري سوى على ما يوصَف بـ”المعارضة المعتدلة” وهي فصائل لا تملك التأثير الميداني نفسه الذي تتميز به “داعش” و“النصرة” و“أحرار الشام” وغيرها من الجماعات التي كانت رأس الحربة في محاربة النظام السوري وحلفائه طيلة خمس سنوات، وهذه الجماعات الفاعلة ستتواصل معها الحرب.
هذا يعني أن روسيا قد استطاعت أخيراً أن تُقنع أمريكا بوجهة نظرها إلى الأزمة السورية وتحملها على تبنّيها والمشاركة في تطبيقها عوض أن تكون في الطرف الآخر من المعادلة. وتروّج روسيا باستمرار لحلّ سلمي يقوم على تسويةٍ بين النظام والمعارضة يتقاسمان من خلالها الحكم ويوحّدان جهودهما لمحاربة “داعش” والنصرة” وباقي الفصائل التي تصنِّفها موسكو في قائمة الجماعات الإرهابية، وقد زعمت أن تدخّلها العسكري بداية من 30 سبتمبر 2015 يندرج في إطار مساعدة الجيش السوري وحلفائه على محاربة هذه الجماعات، قبل أن يتبيّن أن هدفها الأول كان ترجيح كفة الجيش السوري ميدانياً وتحجيم قوة المعارضة المسلحة بهدف الضغط عليها لحملها على القبول بتسوية سياسية مع النظام ومحاربة “داعش” وأخواتها معه، والتخلي عن فكرة إسقاطه بالقوة، وهو الهدف الذي بات قريب التحقيق فيما يبدو من خلال اتفاق وقف إطلاق النار الذي توصلت إليه روسيا وأمريكا مؤخراً.
ويتيح اتفاقُ الدولتين العظميين استئنافَ مفاوضات “جنيف 3” قريباً قصد التوصّل إلى اتفاقٍ نهائي بين النظام السوري والمعارضة على آليات تحقيق التسوية بينهما، وسيسعى النظام إلى إقناع المعارضة بتقاسم الحكم معه والدخول في حكومة وحدة وطنية ودمج جهودها مع الجيش لمحاربة “داعش” و“النصرة” وكل التنظيمات التي اتفقت أمريكا وروسيا على إقصائها من اتفاق وقف إطلاق النار، والاستمرار في محاربتها، في حين ستسعى المعارضة المسلحة إلى إقناع النظام بمطالبها التقليدية وأهمها ضرورة الذهاب إلى مرحلة انتقالية محدودة المدّة تقودها حكومة انتقالية بصلاحيات كاملة تُكلّف بوضع دستور ديمقراطي للبلاد وتنظيم انتخابات عامة تحت مراقبة دولية صارمة لتحقيق “الانتقال السياسي”، وقد تشهد المفاوضات تعثرا بين الجانبين مجدداً في العديد من جولاتها، لكنها قد تنجح في ختام المطاف إذا بقيت روسيا وأمريكا حازمتين مع الطرفين، وأجبرتهما على تقديم تنازلاتٍ متبادلة تفضي إلى تسوية سياسية تُنهي النزاع المسلح بينهما تماماً وتجعلهما يتفرغان لمحاربة “داعش” و“النصرة” معاً على الأرض بتأمين غطاء جوي أمريكي وروسي كثيف.
وإذا حدث ذلك، فسيحدث تحوّلٌ في الميدان، وتصبح الحرب ذات طرفين بدل ثلاثة أطراف حاليا، وستكون “داعش” و“النصرة” وجماعات أخرى أقلّ قوة منهما في جهة، والنظام السوري وحلفائه “القدامى” وكذا “الجدد” أي التنظيمات المعارضة حالياً، وكذا روسيا وأمريكا وربما دولٌ أخرى، في الجهة المقابلة، وستكون المواجهات القادمة بعنوان “الحرب على الإرهاب” بعد أن ينتهي الصراع على الحكم بتسوية سياسية.
إلاّ أنه ينبغي التنبيه إلى أمرين:
الأول: أن محاولة فرض تسويةٍ على جميع فصائل المعارضة وتخلّي أمريكا الواضح عن شرط رحيل الأسد، قد يجعل الكثير من هذه الفصائل تنضمّ إلى “داعش” و“النصرة” وتواصل القتال تحت رايتيهما، فهي قد لا تقبل مثل هذه التسوية بعد 5 سنوات كاملة من القتال والتضحيات لتصل إلى نتيجة مرّة وهي بقاء الأسد في الحكم.
الثاني: أن حسم المعركة ضد “داعش” و“النصرة” ليس بالأمر السهل، وقد أكدت وقائع كثيرة عدم القدرة على القضاء على “داعش” وحدها، فكيف إذا انضمّت إليها “النصرة” وتشكيلاتٌ سلفية أخرى أقصاها اتفاقُ وقف إطلاق النار؟
وانطلاقاً من ذلك، قد يشهد المسارُ السلمي للأزمة السورية الكثير من محطات التعثّر، وحتى إذا سارت الأمور بالكيفية المطلوبة من أمريكا وروسيا، فإن نهاية الحرب في سوريا لن تكون غداً، وقد تجد مختلف الأطراف التي “ستتحالف” ضد “داعش” و“النصرة” نفسها أمام حربٍ تستمرّ سنوات أخرى قبل أن تقضي عليها، إذا استطاعت تحقيق هذا الهدف، ولم يتكرر معها سيناريو تنظيم “القاعدة”