تحاليل وآراءقضايا الأمـــة
هل يمكن كتابة مسار الثورة اليوم؟ بقلم أ.د عمار طالبي

نسمع ونقرأ جدلا محتدما بين بعض الكاتبين، هذا يرى رأيا، وذاك يرد عليه، سواء عاصر الثورة أو جاء بعدها، وليس له علم محقق بما جرى، فهذا ثائر ينتقد، وذاك ابنه أو قريبه يرد على الانتقاد، هذا ينقل شهادة ربما تكون جزئية لا تحيط بالموقف بكل نواحيه، وذاك يضيف إليه أو ينكر شهادته.
إن المعاصرة حجاب، وأن الذاتية قد تسيطر على الراوي أو على من يرد، وهو لم يكن من الشاهدين، وليس له علم كامل بما جرى وحدث، كما نرى في قضية عبان رمضان، رحمه الله، أو غيره ممن قتل وحكم عليه بالإعدام، كالشهيد محمد لعموري، والشهيد عباس لغرور، رحمهما الله، وغيرهما ممن حكم عليه بالإعدام.
ولا تخلو الثورات من صراع، ولا تخلو بعض الشهادات من خلل، وقد تخون الذاكرة.
فالدراسات التاريخية الموضوعية بقدر الإمكان لثورتنا يمكن القول أنها ما تزال شروطها غير متوفرة بصفة كافية.
ونحن نعلم أن المعرفة التاريخية من الصعب أن تكون موضوعية مطابقة للواقع، فالمؤرخ له تأويله وقراءته للأحداث، والنصوص والأشخاص الفاعلين، متأثرا بهذا الدافع أو ذاك.
ولاشك أن ثورتنا لها من العظمة مقارنة مع الثورات التاريخية، لم يدركها كثير من المؤرخين الذين كتبوا عنها لحد اليوم، سواء كانوا من الجزائريين أو من الأجانب الفرنسيين، وغيرهم من الأوروبيين، ولذلك فإن الكتابة النزيهة الموضوعية يصعب توفرها في هذه الظروف الحالية.
وقد قرأنا لبعض الفرنسيين ما كتبوا من وجهة نظرهم، لا تخلو من تحريف وتزييف، كما لا تخلو كتابات غيرهم من خلل أو سوء تأويل، أو الاعتماد على أخبار وروايات تحتاج إلى التثبّت والتحقق، ولا شك في أن تبرير قتل عبان رمضان أو غيره لا يقبل إلا إذا ثبتت خيانته أو انحرافه المقطوع به عن الثورة.
فهل يبرر قتل عباس لغرور أو محمد لعموري، رحمهما الله، والاستعانة بالأمن التونسي في عهد الرئيس بورقيبة بطلب من بعض قادة الثورة في تونس بسجنهم ثم الحكم عليهم.
كانت الولاية الأولى تتعاطف مع معارضي الرئيس بورقيبة من قادة الثورة التونسية، أو من زعمائها مثل صالح بن يوسف رحمه الله.
والمنافسة بين كريم بلقاسم وعبان رمضان، رحمهما الله، كانت واضحة، وكذلك شدة عبان رمضان وقساوته في معاملة القادة الآخرين معروفة تقريبا، ولكن ذلك كله لا يبرر قتله، ولذلك كان بن طوبال قد اقترح سجنه وإن كان لم يؤخذ برأيه كما يروي، ورأى إبعاده عن القيادة لما يرى هو وجماعته من تصرفاته معهم، اعتبروها مسيئة لهم، أو مهددة لقيادتهم.
لذا لم يحن بعد، فيما أرى دراسة تاريخ الثورة والحكم عليها أو على قادتها حكما له درجة كافية من الموضوعية الممكنة، ولعل أرشيف الثورة والحكومة المؤقتة إذا لم تفقد منه أجزاء كثيرة، يمكن المؤرخ من أن يصل إلى بعض الحقائق الغائبة اليوم عن الساحة العلمية، فالذي يكتب المذكرات يسجل شهادته في ظروف معينة، ربما تغيب عنه ظروف أخرى لم يشهدها، فتكون روايته أو شهادته جزئية، أو مجانبة للواقع الذي غاب عنه، أو جزء منه مكمل أو معارض.
ولعل جهودا يبذلها من يجيء بعدنا من المؤرخين الذين يدرسون عظمة هذه الثورة، دراسة مؤقتة ومقارنة؛ ومحللة لمختلف الشهادات والمذكرات والروايات والوثائق للوصول إلى حقائق يمكن أن تكتسب شيئا من الموضوعية أو ما يقرب منها، فأنت مثلا إذا قارنت بين نص نداء أول نوفمبر والنصوص الأخيرة في طرابلس تجد بعدا عن نداء نوفمبر وإبعادا واضحا لإطار المبادئ الإسلامية لأسباب.