يعيش العراق منذ مستهل شهر جوان الماضي اضطرابات شديدة وانقساما شعبيا حادا ينذر بدخول البلد في حرب أهلية طاحنة قد يتبعها انقسامُه إلى ثلاث دويلات ما لم يتمّ استدراك الوضع في أقرب وقت، وقد بدأت بوادر هذا الانقسام من خلال ارتفاع أصوات بعض الأكراد للمطالبة بالانفصال عن العراق أو تحويله إلى كونفيدرالية من ثلاث دول؛ واحدة للشيعة في الجنوب وأخرى للسنة في الوسط، وثالثة للأكراد في شمال البلد.
ويمكن القولُ إن العراق الموحد الذي بناه حزب البعث وصدام حسين رحمه الله، قد أصبح مهددا في الصميم، ويسير بخطى وئيدة نحو تجسيد المخطط الذي وضعته الولايات المتحدة قبل غزوها البلد في مارس 2003، ويهدف إلى إعادة رسم خريطة العراق وإنهائه بإقامة ثلاث دويلات جديدة بدله، على أسسٍ طائفية وعرقية.
وبرغم خطورة الأزمة الحالية على وحدة البلد، إلا أن طريقة معالجتها خاطئة تماماً؛ فالمالكي لا يزال مصرّا على رئاسة حكومة جديدة لعهدة ثالثة من أربع سنوات عوض أن يقبل التنحي إيثاراً للمصلحة العليا للوطن ولوحدته على مصلحته الشخصية، ولغة التحريض الطائفي على قتال “ثوار العشائر” السنية تتصاعد من الحوزات الشيعية ولا تُسمع معها الأصواتُ الداعية إلى التحلي بالحكمة والتعقل واعتماد الحوار أسلوباً أمثل لحل الأزمة قبل أن تستفحل ويصبح الحوارُ متعذراً.
لقد حكم المالكي طوال ثماني سنوات، فلم يجن العراقُ من حكمه سوى الفشل الاقتصادي واستشراء الفساد حتى صنفت منظمة شفافية دولية العراق ضمن الدول الأكثر فساداً في العالم، كما كرّس المالكي الطائفية في البلد بممارساته الاقصائية، إذ كان منحازا بشكل سافر إلى الشيعة ومارس شتى صنوف الاقصاء والتهميش ضد السنة، وحرم مناطقهم من حقها في التنمية ولم يعدل بين أبناء الشعب، ومارس ظلما كبيرا على السنة واضطهدهم وملأ السجون بالمعارضين منهم لسياسته ولم يستثن نساءهم إمعاناً في إذلالهم والحطّ من رجولتهم، وحتى عندما انتفض أبناءُ السنة في عدة مدن ودخلوا في اعتصام احتجاجي مفتوح على هذا الظلم المستفحل، رفض المالكي الاستجابة لمطالبهم وانشغالاتهم الشرعية، وحلِّ المشكلة معهم وديا، وأمعن في احتقارهم وتهميشهم كما قمع اعتصامَهم بالقوة بذريعة أنه تحوّل إلى “وكر” لتنظيم “الدولة الإسلامية في العراق والشام”.
وقد حذر العراقيون، وفي مقدمتهم بعض “المرجعيات” الشيعية نفسها، المالكي من مغبة مواصلة هذه السياسة الاقصائية التي حوّلت السنة إلى مواطنين من الدرجة الثانية، حتى أن مقتدى الصدر انتقده بسببها مراراً، أما عمار الحكيم فدعا بدوره إلى تخصيص 5 ملايير دولار من عائدات النفط لتنمية المناطق السنية التي يشعر سكانُها بالتهميش والاقصاء، لمنع لجوئهم إلى الثورة ضده، إلا أن المالكي تجاهل كل هذه النداءات واعتبر أنه لا ثورة في المناطق السنية، بل فقط “إرهابٌ” تمارسه “داعش” منذ سنوات.
وكانت النتيجة لجوء بعض السنة إلى حمل السلاح ومباغتة قوات المالكي في عدّة مدن أهمّها الموصل، وانهار الجيش العراقي أمامهم في بضع ساعات برغم أن قوامه يتجاوز الـ30 ألف جندي مقابل 1800 عنصر فقط من “ثوار العشائر” المتحالفين مع “داعش”، وبات هؤلاء يهددون بالزحف على العاصمة بغداد واسقاط حكم المالكي.
وعوض أن يلجأ المالكي إلى حل سياسي مع وجهاء عشائر السنة ينزع بموجبه فتيل الأزمة الجديدة ويعزل “داعش” التي أحسنت الاستثمار في تصاعد الغليان الشعبي في المناطق السنية.. راح المالكي يحاول تضليل العراقيين والعالم بزعمه أن “داعش” وحدها هي التي تقود عمليات السيطرة على المدن والمحافظات العراقية، وراح يستنجد بالولايات المتحدة ويدعوها إلى التدخل عسكرياً في بلده لانقاذ حكمه، كما لم يرعوِ عن محاولة الزجّ ببلده في أتون حرب طائفية خطيرة بين الشيعة والسنة، من خلال الاستغاثة بـ”المرجعيات” الشيعية لتجييش عوام الشيعة وتجنيدهم في ميليشيات طائفية قصد اخضاع السنة تحت غطاء “محاربة داعش“.
والمؤسف أن هذه “المرجعيات” قد استجابت له وأصدرت “فتاوى” بوجوب قتال “ثوار العشائر” السنية غير مكترثة بالعواقب الخطيرة لأيّ حرب طائفية تنجرّ عن “فتاواها“، ما جعل الآلاف، وربما عشرات الآلاف، من عوامّ الشيعة يستجيبون لنداءاتها ويلتحقون بصفوف الميليشيات، وهو الوضع الذي يعني ببساطة أن الحرب الطائفية الواسعة قادمة لا محالة، وستكون أشدّ خطراً وشراسة من حرب 2006 و2007 التي أدّت إلى مقتل أكثر من 180 ألف عراقي من الطائفتين أغلبهم من السنة، وقد تعود عملياتُ التطهير الطائفي على نطاق واسع ويموت عشراتُ الآلاف على الهوية ويتمزق تماماً النسيجُ الاجتماعي للعراق…
باختصار، العراق مقبلٌ على حرب طائفية خطيرة قد تُفضي إلى مقتل مئات الآلاف من الطرفين، وإحداث دمار هائل يتجاوز ما هو حاصل في سوريا، وقد تُتبع بحرب عرقية أيضاً بين الأكراد والعرب، وتكون النتيجة الحتمية بعد كل ذلك، هو الانقسام إلى ثلاث دويلات على أسس طائفية وعرقية.
نرجو فقط أن يحدث ما يشبه المعجزة وأن تتغلَّب أصواتُ الحكمة والتعقل والجنوح إلى السلم والحوار، على الأصوات الطائفية التي تدعو ليلاً نهاراً إلى مواجهات دموية واسعة، رافعة في ذلك شعارات انتقامية ثأرية قديمة عفا عنها الزمن، دون أيّ إحساس بالمسؤولية أو بالعواقب الوخيمة لِما تدعو إليه.