تركيا تصنع النموذج الديمقراطي مرة أخرى!!
لم تفلح الضجة التي أثيرت حول فساد محيط رئيس وزراء تركيا “رجب طيب أردوغان” في الأشهر القليلة الماضية في جعل أسهم حزب “العدالة والتنمية” تنخفض في بورصة السياسة التركية الداخلية، وكذا في بورصة السياسة التركية الخارجية، كما لم تفلح كل أساليب التهويل والتهريج من قبل المعارضة في ثني المواطن التركي عن انتخاب مرة أخرى برنامج حزب “العدالة والتنمية”، وإعطائه ثقة جماهيرية واسعة أعادته للساحة السياسية التركية أكثر قوة من ذي قبل.
عبد الباقي صلاي
بالفعل لم تفلح المؤامرة المعارضاتية، و ما قيل عن فساد وزرائه، وفساد حتى أبنائه في إنهاء مشوار “حزب العدالة والتنمية” ودفعه نحو الأرشيف السياسي لتركيا، ليسهل بعد ذلك تدمير حزب ” أردوغان” الذي برهن بالحجة والدليل أنه أكبر من أي إعصار، وأكبر من أي مؤامرة داخلية تحركها أياد خارجية.
ما أثار الانتباه لدى جل الملاحظين السياسيين في فوز “حزب العدالة والتنمية” بأغلبية كاسحة في الانتخابات البلدية، هو الإرهاصات والإكراهات الكبيرة التي لازمته خلال الأشهر القليلة، وكيف استطاع أن يتغلب عليها، ويؤدب خصومه بأن الشعب وحده القادر بأن يمنح السلطة، أما دون ذلك فلا.
بالموازاة مع ما قيل عن فوز حزب أردوغان في هذه الانتخابات، فإن تركيا نجحت في تخطي أكبر عقبة سياسية مصيرية في تاريخيها، وبرهنت مرة أخرى أنها أفضل بكثير من الدول العربية التي ما تزال تترنح تحت وطأة تزوير الانتخابات، وتحت طائلة العبث السياسي الذي لا ينتهي. كما أن تركيا بفضل سياسة
“حزب العدالة والتنمية” برهنت أنها لا عب ماهر يحسن تسجيل الأهداف في الوقت بدل الضائع، ويحقق الفوز دون أي ضجة تذكر.
وأغلب الظن أن هذه الانتخابات التي اكتسح فيها حزب “العدالة والتنمية” ستعيد له بريقه على الساحة الدولية،وتمنحه فرصة أخرى للولوج في الملعب الدولي الكبير، وستجعل القوى الكبرى تحسب له ألف حساب كقوة إقليمية، وكمنافس قوي ليس لأمريكا، ولكن لإسرائيل التي لا ترى في الدول العربية المسلمة أي خطورة، ولكن ترى في تركيا الخطر الأكبر وعلى المدى البعيد، بفضل حزب” العدالة والتنمية”.
ودليل بعضهم أن تركيا اليوم هي لاعب ماهر في الملعب الإسرائيلي ما قاله الرئيس الإسرائيلي “شمعون بيريز” سابقاً في مقابلة مع قناة ” إس تي في ” التركية: ” إن تركيا دولة نموذجية بالعالم الإسلامي و عليها دور في مشروعات المنطقة. و إذا كان الاتحاد الأوروبي يرغب في القضاء على الصراع الكبير الجاري بين العالم الإسلامي والمسيحي فعليه منح تركيا عضوية الاتحاد الأوروبي، لأن ذلك هو الحل المناسب لمنع صراع الحضارات”. ولقد سبق للكاتب التركي “طه أقيول ” أن قال عن مشروع تركيا الواعد بزعامة حزب العدالة والتنمية، والمتنفذ في اللعبة العالمية: “إن هذا المشروع مصيري جداً لتركيا !! فهذه المنطقة هي الجغرافيا الإسلامية و نحن في هذه الجغرافيا و القوقاز و جيراننا المسلمون و النفط و إسرائيل و الأكراد و الإرهاب كذلك فيها، و ليس من منطقة ستحدد مصيرالعالم في العقود المقبلة مثل هذه المنطقة”، معتبراً في ذات السياق أن أردوغان و غول كانا سبّاقين إلى الدعوة لتغيير المجتمعات الإسلامية في مؤتمرات ماليزيا و طهران و الكويت وغيرها و إقامة مجتمعات “مفتوحة” و تطور العلاقات التجارية”.
صحيح أن الأتراك استشعروا أنهم الأقوى خصوصاً فيما تعلق بوضعهم حيال الصراع الإسرائيلي مع العرب على حد قول الكاتب التركي “جنكيز تشاندرا”: “إن تطورات التسوية العربية الإسرائيلية تنقل مركز الثقل في المنطقة إلى تركيا، التي تكاد تكتمل لديها عناصر القوة الإقليمية الكبرى، بعد إضعاف دول المشرق العربي ومصر”، ويضيف كاتب آخر تركي وهو فهمي قورو ” المقرب جداً ” من عبد الله غول رئيس تركيا والذي كان من الكتاب المدافعين عن المشروع الذي تقدم به غول في الكويت بخصوص الشرق الأوسط الكبير متسائلاً وكاشفاً لخفايا ما يشعر به العرب حيال قضية الشرق الأوسط التي شغلوا رؤوسنا بها لأكثر من نصف قرن دون حل يذكر: “هل لأن أمريكا هي التي طرحت التغيير يجب أن نتخلى نحن عن مشروعنا، إن الدولة الأولى التي فاتحتها أمريكا بالمشروع هي تركيا و هذا أقلق الحكامالعرب – لأن المشروع حملته تركيا و ليس العرب – ما جعل الرئيس الأسبق حسني مبارك،يقوم بزيارةمفاجئة و سريعة إلى أنقرة” و يضيف: تركيا هي البلد الوحيد الذي له قواسم مشتركة مع غالبية دول المنطقة، و أمريكا يجب أن تبحث عن وسيلة لتخفيف وجودها و تقليل العداء لها في المنطقة و إن مبادرة تركيا لدول الجوار تقدم فرصة لأمريكا على هذا الطريق“.
لقد وجدت تركيا فراغا فشغلته بهمة و جدارة، كما أنها تمكنت من فتح الأبواب عنوة لتدخل التاريخ وتسجل اسمها بحروف من ذهب في سجل الدول الكبيرة. أما العرب فما يزالون عبر الحكام ينتظرون الأبواب حتى تفتّح لهم ليدخلوها آمنين، ويحققوا الأهداف لكن هيهات أن يتحقق الحلم وصاحبه نائم دائما!!.
وهذا كله لم يتأت إلا بفضل الديمقراطية الحضارية التي تتبناها تركيا العصرية، كما لم يتأت إلا بفضل حزب العدالة والتنمية الذي عرف كيف يؤمن الداخل وعينه على الخارج، فراهن على الشعب فلم يخذله.والدليل ماثل للعيان في الانتخابات الأخيرة وكيف أن الشعب برهن بأن تركيا فعلا دولة تتقوى يوما بعد يوم، ودولة لها حسابات جيوإستراتيجية، ولها أبعاد أكبر بكثير من تزوير الانتخابات.
إعلامي ومخرج أفلام وثائقية