في خضمّ ضجيج الرصاص وأصوات المدافع والتفجيرات المستمرة في سوريا، أدلى الرئيسُ السابق للائتلاف الوطني السوري معاذ الخطيب بتصريح لافت للانتباه هاجم فيه بشدة ما يُعرف بـ“مجموعة أصدقاء سوريا” ووصفهم بـ“الكاذبين والمحتالين والمنافقين”، ودعا المعارضة إلى الحوار مع النّظام لإيجاد نقاط توافق مشتَركة تضع حدا للحرب الأهلية المستمرة منذ أكثر من ثلاث سنوات وتحول دون تقسيم سوريا.
أكد الخطيب في تصريحه أنه ليس أمام السلطة والمعارضة في سوريا غير “البحث عن المشترَكات، بعيداً عن الاستراتيجيات الغربية” ولفت إلى أن “الغرب يريد رؤية سوريا مقسمة، في حين لا النظام ولا المعارضة يرغبان في رؤية بلادهما مجزّأة”. وأضاف الخطيب أنّ “من يُسمون أنفسهم أصدقاء سوريا نصفهم كذابون ودجالون ومنافقون، وهم من أوصل الأوضاع إلى ما هي عليه الآن، فهناك جهاتٌ لا تريد للأزمة السورية المستمرّة منذ ثلاثة أعوام أن تُحلّ“.
ويقترح الخطيب تشكيل “حكومة انقاذ وطني” بعد الانتخابات الرئاسية القادمة التي بات أكيداً فوزُ الأسد بها، تقودها شخصية من المعارضة وتعمل جنباً إلى جنب مع النّظام الحالي لإخراج سوريا من أزمتها، ويقترح أن يقودها هو أو هيثم مناع أو عارف دليلة أو وليد البني، وقد عقدت هذه الشخصيات لقاءاتٍ في القاهرة مع الأمين العام للجامعة العربية وكذا نبيل فهمي وزير الخارجية المصري، من أجل البحث عن حل سلمي تفاوضي للأزمة السورية، وتشير أنباءٌ صحفية إلى أن الجانب المصري تقدّم باقتراح وساطة بين نّظام بشار وهذه الشخصيات الموصوفة بــ”المعتدلة” و“المقبولة” من النظام، وأن الأمور تسير باتجاه قبول بشار هذا الاقتراح، لاسيما وأنه يقبل باستمرار نظامه ولا يشترط ذهابَه واقامة “حكومة انتقالية بصلاحيات كاملة” كما تشترط المعارضة الراديكالية التي تقاتله منذ 3 سنوات.
ومع أنّ هذه المبادرة جاءت متأخرة، ومن شخصية لم تعُد تقود المعارضة منذ أشهر، ولا تأثيرَ لها عليها، وبالتالي فإنّ فرص نجاحها ضئيل إذا لم تلقَ قبولاً واسعاً في أوساط المعارضة السيسية والمسلحة على السواء، إلاّ أنهّا تعدّ في الواقع مؤشراً هاماً في الأزمة السورية ينبغي التوقفُ عنده طويلاً؛ فقد أضحى بعض المعارضين السوريين أقلّ حدّة إتجاه النظام القائم، وأكثر ميلاً إلى الواقعية والمرونة، وتبدّلت نظرتُهم إلى الأحداث الجارية ببلدهم بشكل جذري مقارنة بما كانوا عليه قبل أشهر قليلة فقط.
لقد كان معاذ الخطيب نفسه أحدَ الشخصيات الراديكالية التي ترى الصراعَ في سوريا بين النظام والمعارضة صراعاً صِفرياً لا مجال فيه للحلول الوسط والتسويات السياسية السلمية التي تقدّم فيها أي شكل من أشكال التنازل للنظام، وكانت تطالب برحيله كله وتسليم الحكم لها لاقامة نظام جديد تماماً كما هو حاصل في العراق وليبيا، وتسعى دون هوادة لاسقاطه بالقوة. وما شجّع المعارضة على رفع سقف مطالبها واشتراط ذهاب النظام واقتلاع جذوره، هو الانتصارات الكبيرة التي حققتها جماعاتُها المسلحة المختلفة في العامين الأولين التاليين لعسْكرة الثورة، حيث كانت تسيطر على أكثر من نصف البلاد، وتحقق كل يوم انتصاراتٍ عسكرية جديدة تكسب فيها المزيد من المدن والبلدات والأراضي في حين تتقلص باستمرار المساحات التي يسيطر عليها النظام برغم آلته العسكرية الفتاكة، وقام الغربُ من جهته بتضليل المعارضة من خلال الترديد باستمرار أن “أيام الأسد باتت معدودة” وأوهمه في بعض الفترات بإمكانية التدخل عسكرياً إلى جانبه لاسقاط نظام بشار إذا “تجاوز الخطوط الحمراء” واستعمل ضدها أسلحة كيماوية مثلاً.
لكن دخول حزب الله ساحة الحرب إلى جانب النظام السوري والزج فيها بالآلاف من مقاتليه المدرّبين جيداً على أيدي عسكريين إيرانيين، وكذا دخول ميليشيات شيعية أخرى ساحة المعركة، قلّب الأوضاع رأساً على عقب في الميدان، منذ نحو عام، فحقق الجيشُ السوري وحزب الله انتصارا كبيراً في “القصير” ثم تبعتها انتصاراتٌ أخرى في العديد من المدن والبلدات الإستراتيجية آخرها حمص القديمة التي توصف بـ”معقل الثورة”، حيث أُرغم مقاتلو المعارضة على الخروج من المدينة التي كانوا يسيطرون عليها طيلة عامين وتركوا أسلحتهم الثقيلة فيها. كما بات النظام وحزب الله يواصلون تقدّمهم في مختلف المناطق في سوريا ويسترجعان المزيد من المساحات التي كانت تحت هيمنة المعارضة المسلحة، وبدا واضحاً أنَّ ميزان القوى قد اختلّ اتجاه النظام، وبشكل ينذر بدحر المعارضة عسكرياً في ظرف أشهر قليلة من الآن إذا تواصل تقدّمُ قوات النظام وحزب الله على هذه الوتيرة، ولم تتسلّم المعارضة أسلحة حديثة فتاكة من أمريكا والغرب وفي مقدمتها الصواريخ المُضادة للطائرات “مان باد” والتي تلحّ في طلبها منذ أسابيع عديدة دون أن تفلح في اقناع أمريكا بالاستجابة لها خوفاً من سقوطها في أيدي التنظيمات الإسلامية المقرّبة من “القاعدة” والتي تشكل العمود الفقري للمسلحين المعارضين في سوريا، كما تبخّرت تماماً كلّ آمال المعارضة في إمكانية تدخّل أمريكا والناتو عسكرياً لاسقاط الأسد وإيصالها إلى الحكم بعد اتفاق العام الماضي لتسليم أسلحته الكيماوية.
وعلى الصعيد السياسي، لم يعد الغرب يطالب برحيل الأسد كما كان يفعل طيلة السنوات الثلاث الماضية، وبدا وكأنه قد بدأ يحضّر نفسه للتعايش معه مجدداً إذا ظفر بعهدةٍ رئاسية أخرى في جوان الجاري وتمكّن من تحقيق انتصار ساحق على المعارضة المسلحة في الأشهر القادمة، وفي نفس الوقت فإن اتجاه السعودية إلى الدخول في جلسات حوار مطوّلة مع إيران بناءً على طلبها، يؤشر بدوره لإمكانية اتفاق الطرفين على حلّ سلمي للأزمة السورية.
ومن ثمّة، فإنّ كل تلك العوامل وغيرها دفعت معاذ الخطيب ومجموعة من رفقائه في المعارضة إلى التقدّم بمبادرة الحوار مع النظام وإقامة “حكومة إنقاذٍ وطني” بعد نجاح الأسد في الرئاسيات القادمة، إدركاً من الخطيب وغيره، أن المعطيات قد تغيّرت كثيراً، وأن البحث عن حل سلمي وسطي والقبول بالتعايش مع النّظام الحالي هو الحلّ الواقعي الذي يمكن تحقيقُه في الظرف الراهن، ولا مناص منه لانقاذ سوريا من التفكك والانهيار والتقسيم الذي بات يهددها إذا استمرت الاقتتال والتناحر سنوات أخرى دون أن يتحقق الحسم العسكري لأي طرف لأن هناك قوى غربية لا تريد ذلك لاستنزاف الدولة السورية وتقويض قدرات جيشها وتدمير اقتصادها تماماً واعادة البلد عشرات السنوات إلى الوراء.
ومع أن الخطيب لم يعد يرأس المعارضة منذ أشهر، إلا أن تصريحه هذا ربّما يعبّر عما يعتملُ في نفوس الكثير من المعارضين الذين أضحوا يدركون عدم امكانية إسقاط النظام بالقوة، وأن الغربَ قد تخلى عنهم، وأنّ استمرار الاقتتال قد يعني اندثار سوريا… ولكنهم بحاجة إلى مبادرات سياسية لتحريك المياه الراكدة.
ليس سهلاً أن تقبل المعارضة بالتعايش مع هذا النظام الاستبدادي الدموي، بعد ثلاث سنوات من الاقتتال معه وسقوط أكثر من 200 ألف قتيل وتهجير نصف سكان البلد من بيوتهم، ولكن ذلك أهون بكثر من تدمير البلد وصوْملته وتقويض مقدراته وتفكيكه إلى دويلات هزيلة متناحرة.