مصرف السلام الجزائر .. خدمات بنكية أصيلة
تحاليل وآراء

نقد المحاولات التجديدية في العالم الإسلامي/أ٠عبدالقادر قلاتي

22  يمكن أن ندرك بيسر أهم الأخطاء التي وقعت فيها حركة التجديد المعاصرة في محاولاتها التي تمّت في حقل التداول الإسلامي، ذلك أن إصرارها على التقريب بين حقلين تداوليين يملك كلّ منهما خصوصية الاختلاف عن الآخر جعلت أي متابع للخطاب الديني يلحظ هذا الخلط المنهجي في عموم ما أنتج من تنظير فكريٍّ خلال عمر هذه التجربة التي اعتبرنا بدايتها ظهور الحركة الوهابية في الحجاز.

فعملية التقريب التي تمت في إطار هذه المحاولات والتي استقت مفاهيم وآليات نقلتها من حقل تداولي «مغاير للمجال التداولي الإسلامي العربي..» 1، أظهرت عدم إمكانية الإحاطة بالحداثة الغربية وفهم سياقاتها التاريخية «لأنّها مفهوم معقد لا يمكن الإحاطة به» 2، أو التمكن من فهم تجربته دون قراءتها بعيداً عن الانبهار ودون التخلص من آثار لحظة الاصطدام التي طرقت بقسوة العقل العربي والمسلم، وراحت هذه المحاولات تحاكي النمط الحداثي الغربي الذي كان يستبطن نبذ كلّ ما هو قيمي باعتباره نمطا يستند في تجربته الحداثية على العلم الذي لا يمكن للجانب الأخلاقي أن يتدخل في ممارسته؛ فالحضارة الغربية كما تنعت «حضارة منكفئة على «اللوغوس» في دلالته اليونانية الأصلية أو بإيجاز إنّها «حضارة لوغوس…» 3 ومن معاني «اللوغوس» التي برزت معنيان «اشتهرا أكثر من غيرهما، وهما: «العقل» و«القول»؛ فحينئذ، تكون الحضارة الحديثة حضارة ذات وجهين: «حضارة عقل» و«حضارة قول»؛ لكن الوجه الذي شغل النّاس عمومًا والمتفلسفة والحداثيين خصوصًا أكثر من الآخر إلى حد الافتتان به، هو كونها «حضارة عقل»؛ وتجلى هذا الافتتان في رفع «الخاصية العقلية» -أو بالاصطلاح المعروف؛ «العقلانية»- إلى أعلى مرتبة من مراتب الإدراك الإنساني كما تجلى في الميل إلى تخصيص أهل الغرب بها» 4 فالمحاولات التجديدية التي حسمت موقفها من الحداثة من أول لحظة، بأن اختارت تقريب النموذج الحداثي الغربي مع تراثنا الفكري دون أن تتميز خصوصيات هذا النموذج، ودون أن تبرز خصوصية الدين الإسلامي راحت تخوض في موضوع «العقلانية» بعيداً عن خصوصية الذات، وتستند في كثير من تنظيراتها إلى هذه الخاصية «حتى تواردت عليه ضروب من الشبهة والإشكال، وتطرقت إليها صنوف من الخلل والفساد، هذه الضروب والصنوف التي تحتاج إلى استجلاء أوصافها وبيان أسبابها وتحديد آثارها حتى نحترز من الوقوع فيها ونهتدي إلى طريق في «العقلانية» يكون موافقاً للأخلاق الإسلامية» 5. فإذا حاولنا أن نجمل المحاولات التي استقت معايير العقلانية الغربية (المجردة) نستطيع أن نلاحظ ثلاث حقائق من واقع الاشتغال بهذه العقلانية حصرها طه عبد الرحمن فيما يلي:

1- أن كلّ من تولى النّظر في وسائل النّهوض بواقع العالم الإسلامي والعربي لم يتردد في أن يجعل العقلانية على رأس هذه الوسائل، مشيدًا بفضائل وفوائد المناهج العقلية في تحصيل المطلوب من التقدم والتحضر.

2- أن التعلق بالعقلانية تساوي فيه من يتمسك بأخلاق الدين الإسلامي ومن يميل عن هذا الدين مبتغيًا العمل بأخلاق أخرى وكذا من ينزل منزلة بين هذين الطرفين، منتقيًا بعض الأخلاق من الدين الإٍسلامي والبعض الآخر من مذاهب غير إسلامية أو غير دينية، بحجة مسايرة التطور والاستجابة لمقتضى التغيير.

3- أن هذه الدعوة إلى العقلانية التي تشترك فيها الفئات الإسلامية والعربية على تباين اختياراتها العقدية تزايدت في الشدة والانتشار على مدى فترة استغرقت قرنًا ونصفًا من الزمن وامتدت من منتصف القرن التاسع عشر إلى نهاية القرن العشرين 6.

ولم تخضع مَوْضَعَة «العقلانية» في المجال الإسلامي. أو تنظيرات هذه المحاولات لعملية نقد، بالقدر الذي يجعلها مقبولة التوظيف والتقريب من المجال التداولي العربي الإسلامي، بل اندفعت المحاولات التجديدية نحو مَوْضَعَة العقلانية، وكأنها المخلص لأوضاعنا الحضارية وأبت هذه المحاولات كما قال طه عبد الرحمن: «إلا التمادي في التعلق بالعقلانية والاحتجاج بها والاحتكام إليها، نظرًا لراسخ إيمانهم بكمال مبادئها وتجانس مناهجها وسلامة مآلاتها، حتى أنهم لو فوتحوا في أمر هذا التمحيص وأشعروا باستعجال الحاجة إليه، لكرهوا الدخول فيه لما بلغه هذا الاعتقاد من أنفسهم» 7 وتذهب هذه المحاولات في تقريبها لتراثنا الديني نحو المعايير العقلانية، وإن اختلفت فهومهم نحو أي من الجوانب التراثية أقرب إلى الاستجابة لهذه المعايير. «منهم من يقول بأنها النصوص الفلسفية، ومنهم من يرى أنها النصوص الفقهية، ومنهم من يعتقد أنها النصوص اللغوية، ومنهم من يذهب إلى أنها هي النصوص الكلامية، ومنهم أخيرًا من يجمع أجزاء هذه النصوص، ثمّ ما كان من هذه النصوص واضح الانتساب إلى العقلانية لزم في نظرهم تحقيقه والانتفاع به وفق مقتضيات الحداثة وشروط التطلع إلى المستقبل»8.

إن أشكال الوعي المغلوط الذي صاحب هذه المحاولات عندما تصور أصحابها إمكانية تبنّي المنظومة الحداثية الغربية دفع بها إلى التسليم بمرجعية الحداثة وطرح تصورات ومحاولة إبداع مفاهيم ضمن هذا التصور المغلوط الذي يكشف مدى سذاجة هذه المحاولات عندما تصورت مثلاً إمكانية أسلمة المنظومة المعرفية التي أنتجها النمط الحداثي الغربي وهي إحدى الآفات التي وقعت فيها حركة التجديد بعد آفة العقلانية المجردة غير المسددة (بتعبير طه عبد الرحمن). وظهرت فكرة الأسلمة على الرغم من براءتها من تهم التغريب وتشويه الإسلام التي عادة ما تتهم بها بعض المحاولات المؤدلجة، وتطورت دعوتها حتى غدت اتجاهاً كبيراً ضمن هذه المحاولات. وظهرت دعوتها الأساس، وهي أسلمة المعرفة الغربية، وخصوصًا العلوم الإنسانية كالاقتصاد والعلوم الاجتماعية والأنثربولوجيا وعلم النفس والفلسفة. وخلقت هذه المحاولة خطًّا جديداً في التفكير الديني بدأ يعمل على بناء نظام معرفي وفق الرؤية الإسلامية، وخصائص التصور الإسلامي ومقوماته دون التغاضي عن «الإجابات الفلسفية الوضعية بأشكالها المختلفة وإعادة توظيف هذه العلوم ضمن نظام منهجي ديني غير وضعي»9.

غير أن المحور الأساسي في أدبيات هذه المحاولة التجديدية هو بناء الأنساق المعرفية التي عرفها تاريخنا وذلك «للربط بين الأنساق المعرفية أو النماذج وبين الإنتاج الفكري الذي وجد في تلك العصور لتحديد مدى الاستقامة والفعالية والتجديد والشمول في ذلك الإنتاج أو تجديد العلاقة بين الأزمة الفكرية التي عاشتها الأمة وبين الأنساق التي سادت في تلك الفترات… ثم محاولة كشف وبيان كيفية استمداد النماذج المعرفية الجزئية من النّظام الكلي التوحيدي» 10.

كلّ ذلك تمهيداً كما يقول طه جابر العلواني «لإمكانية تشكيل نماذج معرفية في مختلف العلوم الاجتماعية والتطبيقية قائمة على عقيدة التوحيد والجمع بين القراءتين، قراءة الوحي وقراءة الواقع مع الاستفادة مع النماذج المعرفية التي سادت التراث والنماذج المعرفية التي طورها الفكر الغربي أو الإنساني المعاصر» 11.

…………..

1– طه عبد الرحمن ـ تجديد المنهج في تقويم التراث ـ المركز الثقافي العربي ـ ص 237.

2– داريوش شايفات ـ أوهام الهوية ـ دار الساقي. ص 117.

3– طه عبد الرحمن ـ سؤال الأخلاق ـ ص 59.

4– طه عبد الرحمن ـ سؤال الأخلاق ـ ص 59.

5– نفس المرجع ـ ص 60.

6– نفس المرجع ـ ص 60.

7– طه عبد الرحمن ـ سؤال الأخلاق ص . 60 ـ 61.

8– طه عبد الرحمن ـ تجديد المنهج. ص 25.

9– محمد أبو القاسم حاج حمد ـ منهجية القرآن وأسلمة فلسفة العوم الطبيعية والإنسانية ـ نقلاً عن إسلامية المعرفة بين الأمس واليوم ـ طه جابر العلوي ـ ص11.

10– طه جابر العلواني ـ إسلامية المعرفة بين الأمس واليوم ـ ص 20.

11– نفس المرجع ـ ص 20.

*نشر المقال ضمن دراسة حول التجديد في موقع إسلام أون لاين

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى