هذه ثورة وليست فورة /الأستاذ قدور قرناش
إن هذا العنوان الذي صدَّرتُ به مقالتي هو وصف أطلقه الشيخ البشير الإبراهيمي – رحمه الله– على ثورة نوفمبر المباركة عند انطلاقها، ومردُّ هذا الوصف يعود في اعتقادي إلى أن الثورة المجيدة كانت توقيتها موحدًا ليلة الفاتح نوفمبر 1954، وعمّت كل أنحاء الجزائر.
ونحن نحيي الذكرى 59 لجهاد أجدادنا نريد أن نقف عند هذه الحادثة التاريخية من منظور قرآني تأسيًا بقول الشيخ البشير الإبراهيمي رحمه الله الذي قال: “لا يفسر القرآن إلى لسانان: لسان الإنسان ولسان الزمان” خاصة لما يتعلق الأمر بثورة في مقام ثورة نوفمبر التي نريد لها أن تبقى حية في نفوس الناشئة ودرس بليغًا نستلهم منه العبر كلما ألمت بنا الخطوب.
وكم في الجزائر من معجزات وإن جحدوها ولم تكتب.
فالدارس لتاريخ جهادنا عليه أن يدرك مدى تشبث المحتل بهذه الأرض، حيث يقول وزير المستعمرات الفرنسية في مذكراته: “لو وزنت كل المستعمرات في كفة، والجزائر في كفة لرجحت كفة الجزائر“. ويقول أيضًا: “إن التفكير في احتلال الجزائر بدأ سنة 1572 م أي قبل ثلاثة قرون من احتلالها” وللإشارة فالقنصل الذي ضربه الداي كان قد أرسل قبل سنوات من ذلك تقريرًا لبلاده يدعوها لاحتلال الجزائر.
إلا أن الشعب الجزائري سفه أحلام العدو بثباته وصموده مستلهما مما جاء في قوله تعالى: “وجاهدهم به جهادًا كبيرًا” حيث أن هذه الآية نزلت في مكة قبل فرض الجهاد، بمعنى أن المجاهدة لا تكون إلا بالقرآن.
ومن الشواهد التي تؤكد تمسك الشعب الجزائري بإسلامه وهويته في جهاد المحتل الشعار الذي كانت تحمله بطاقة الإنخراط في حزب الشعب الجزائري حيث هو نفس شعار جمعية العلماء المسلمين الجزائريين (الإسلام ديننا، والعربية لغتنا، والجزائر وطننا)، إن قوائم الشهداء التي قدمها الشعب الجزائري هي ثمن كان لابد منه في سبيل استرجاع الحرية المسلوبة، والقضية قيمة أدركها الأولون قبلنا فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: “متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرار“. كما عرف قيمة الحرية أولو الألباب في الآخرين، إذ يقول الإمام عبد الحميد بن باديس رحمه الله: “حق كل إنسان في الحرية كحقه في الحياة، ومقدار ما عنده من حياة هو مقدار ما عنده من حرية والمعتدى عليه في شيء من حريته، كالمعتدى عليه في شيء في حياته“.
ويقول رحمه الله عن الاستقلال: “إن الاستقلال حق طبيعي لكل أمة من أمم الدنيا، وقد استقلت أمم كانت دوننا في القوة والعلم والمنعة والحضارة، فكما تقلبت الجزائر مع التاريخ، فمن الممكن أن تزداد تقلبًا وتصبح مستقلة استقلالا واسعًا تعتمد عليها فرنسا اعتماد الحر على الحر“.
ويجعل ابن باديس رحمه الله شعار جريدة المنتقد سنة 1925 “الحق فوق كل أحد والوطن قبل كل شيء” ثم يوضح رحمه الله منهج العمل لاستعادة الاستقلال فيقول في مجلة الشهاب سنة 1937 “كونوا جبهة متحدة، لا تكون المفاهمة إلا معها” وهو المنهج الذي طبق سنة 1954 بتأسيس جبهة وجيش التحرير الوطني.
وفي سبيل تحقيق هذه الحرية لابد أن تسترخص النفوس لأنها بيعت لله عز وجل قال تعالى: “إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدًا عليه حق في التوراة والإنجيل والقرآن، ومن أوفى بعهده من الله“.
فالشعب قد أدرك بأن انتزاع حريته واسترجاع سيادته لن تكون هبة من المحتل يتكرم بها عليه، وفي هذا يقول الشيخ البشير الإبراهيمي رحمه الله: “إن الحقوق التي أخذت اغتصابًا لا تسترجع إلا غلابًا“، ويقول أيضًا: “أتطلبون الفص من اللص وتقيسون في موضع النص“. وشعبنا الذي استرخص النفس وهي أغلى ما يملك الإنسان أيقن بأن طريق النصر لا يكون إلا بالتمسك بالهوية الإسلامية، فكان من محاسن القدر أن تندلع الثورة المباركة يوم 05 ربيع الأول 1374 هـ وما أدراك ما ربيع الأول عند المسلمين، وبهذا المبدأ آمن قادة الثورة فكان الإسلام هو المحرك والقائد لأن الحرب بين الجزائر وفرنسا لم يغب فيها عامل الدين، إذ هي حرب صليبية بشهادة جورج بيدو رئيس حكومة فرنسا عند اندلاع ثورة نوفمبر والذي قال: “سيحطم الصليب الهلال“.
وفي هذا المقام أنصح القارئ الكريم بأن يعود لكتاب “تربية الأولاد في الإسلام” لصاحبه عبد الله ناصح علوان حيث أورد قصة وقعت سنة 1958 مع الجنرال لاكوست والذي أدبته مجموعة من الفتيات الجزائريات لما كذبن إدعاءه بأن الجزائر قد تخلت عن إسلامها، فدخلت الفتيات بلباسهن الإسلامي فما كان منه إلا أن صرخ قائلا: “ما تفعل فرنسا إذا كان الإسلام أقوى من فرنسا في الجزائر“.
فإن كان هذا حال الأجداد الذين حققوا الأمجاد، على الخلف أن يستكمل ميسرة التحرير بالبناء والتعمير، بناء الفرد وتعمير الأرض، ولن يتأتى ذلك إلا بالعلم ثم بتحقيق النمو الاقتصادي الذي يحررنا من التبعية لعدو الأمس الذي يريد أن يتحرر من استعلائه الاستعماري، ومما يجب الحرص عليه ونحن نحيي هذه الذكرى العزيزة مواصلة الاستقلال الثقافي والتمسك بالدين الذي به انتصرنا، وكذا المحافظة على وحدتنا الوطنية وقوتنا الدينية ومحبتنا التي بها ننسى خلافاتنا، وبذلك نكون خير خلف لخير سلف، والله نسأل أن ينزل على شهدائنا الأبرار شآبيب الرحمة والرضوان.
عضو المجلس الوطني لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين.