رمضان شهر القرآن/الدكتور مسعود فلوسي
من فضل الله عز وجل على عباده المؤمنين أن هيأ لهم مناسبات خاصة تعينهم على التقرب منه سبحانه وتعالى، وتجعل حياتهم أقرب ما تكون إلى التطابق مع مراده منهم وهو أن يحققوا مقصوده من خلقهم؛ والمتمثل في عبادته عز وعلا وعمارة الأرض وتحقيق الصلاح. ومن هذه المناسبات؛ شهر رمضان الفضيل الذي اختصه الله سبحانه وتعالى بفضائل وخصائص لم يعطها غيره من شهور العام، وعلى رأس هذه الفضائل أنه شهر القرآن.
في رمضان نزل القرآن
يقول الحق سبحانه وتعالى في كتابه العظيم: ((شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ)) [البقرة: 185].
في هذه الآية الكريمة، يمدح الله عز وجل شهر الصيام من بين سائر الشهور، باختياره لإنزال القرآن العظيم فيه. كما يمدح الله سبحانه وتعالى كتابه الكريم القرآن بأنه إنما أنزله ليكون هداية ومرشدا لقلوب العباد ممن آمن به وصدقه واتبعه، وبأنه جعل نزوله في شهر رمضان إشعارا بأن من أعظم المقاصد من تشريع الصيام تصفيةُ الفكر لأجل فهم القرآن.
ونزول القرآن الكريم على النبي صلى الله عليه وسلم ـ كما هو معلوم ـ لم يتم جملة واحدة في شهر رمضان، وإنما ابتدأ نزولُه في هذا الشهر ثم ظل ينزل طيلة ثلاث وعشرين سنة، وهو عمر البعثة المحمدية والامتداد الزمني لنزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد كان ابتداء نزول القرآن في ليلة هي من أشرف الليالي وأفضلها، ليلة هي خير من ألف شهر، كما قال سبحانه وتعالى: ((إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ)) [الدخان: 3]، وقال عز من قائل: ((إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ. وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ. لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ)) [القدر: 1-3]. وروى الحاكم عن عكرمة عن ابن عباس – رضي الله عنهما- أنه قال: “أُنزل القرآن جملة واحدة إلى سماء الدّنيا ليلة القدر، ثم أنزل بعد ذلك في عشرين سنة”.
هذا الربط بين فريضة الصيام في شهر رمضان ونزول القرآن الكريم في هذا الشهر الكريم بالذات، يحتاج منا إلى وقفة تدبر وتأمل، ومحاولة فهم دلالات هذا الارتباط.
القرآن هدى وبينات
لقد وصف الله عز وجل كتابه العزيز في قوله سبحانه: ((شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ))، وصفه بأنه ((هدى))؛ أي منهاج هداية للناس كافة. فالقرآن هو الهدى والنور، والداعي إلى كل خير، والناهي عن كل شر، غذاء الأرواح، ومزكي النفوس، فيه بيان الحلال والحرام، وتفاصيل التشريع والأحكام، من آمن به وصدقه واتبعه وتمسك به هداه الله لأرشد الأمور وأوصله إلى بر الأمان في الدنيا والآخرة، ومن أعرض عنه أو نبذه وراء ظهره فلا يضر إلا نفسه ولن يضر الله شيئا، قال الله تعالى: ﴿((ِنَّ هَـٰذَا ٱلْقُرْءانَ يِهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ وَيُبَشّرُ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلصَّـٰلِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا)) [الإسراء: 9]. وقال سبحانه وتعالى: ((فَمَنِ ٱتَّبَعَ هُدَاىَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَىٰ وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ ٱلْقِيـٰمَةِ أَعْمَىٰ)) [طه: 123-124]، قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: “تكفَّل الله لمن عمل بالقرآن ألا يضل في الدنيا، ولا يشقى في الآخرة”.
هذه الهداية القرآنية تكون استفادتها في شهر رمضان أيسر وأكثر منها في غيره من الشهور، فالزمان المناسب يساعد على تأثير القرآن الكريم في النفس الإنسانية، ويزيد المسلم هدى على هدى، ونورا على نور، ورمضان أفضل الأوقات لتلاوة القرآن والتأثر به، لأن القرآن غذاء الروح، وفي رمضان يضعف سلطان النفس الأمارة بالسوء على البدن، فتستعلي الروح وتقوى بغذاء القرآن الكريم، فينتفع المسلم بكلام الله، ويتلذذ بتلاوة القرآن الذي هو غذاء روحه وحياتها. فالقرآن العظيم كالغيث النافع، والنفس كالأرض، ورمضان كالزمان الصالح لنزول الغيث، الذي تنبت الأرض فيه من كل زوج بهيج. قال الحق جل وعلا ممتنا على عباده المؤمنين: ((وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا)) [الإسراء: 82]، فهو شفاءٌ للأمراض والأسقام الحسيَّة المادية، وهو شفاءٌ لأمراض القلوب وعلل النفوس وأخطاء الأهواء.
كما أن الله عز وجل وصف قرآنه الكريم بأنه ((بينات من الهدى))؛ أي آيات واضحات، لا لبس في معانيها، ولا غموض في دلالاتها، ولا خفاء في حِكَمِهَا وأحكامها، فهي من جنس الهدايات المعروفة التي جاء بها الرسل والأنبياء من قبل، ولكنها أكثر جلاء وبيانا. والصيام بتصفيته لقلب الصائم وتخفيفه من أثقال جسده، يعينه على ملاحظة هذه البينات ومشاهدتها وفهمها والعمل بها: ((وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ)) [القمر: 17].
القرآن فرقان
أما الوصف الثالث الذي وصف الله عز وجل به كتابه الكريم، فهو أنه (فرقان)؛ أي مفرِّقٌ للمهتدي به بين الحق والباطل، والخير والشر، وفاصلٌ بين الفضائل والرذائل، ومميزٌ بين الحلال والحرام، في العقيدة، والعبادة، والأخلاق، والمعاملات، والعادات.. لكن هذا الفرقان، وهذه القدرة على التمييز بين الحق والباطل، والتفريق بين الخير والشر، لا يحصل للإنسان إلا بعد أن يحقق التقوى، والتقوى إنما يُتوصل إليها بفعل ما أمر الله به واجتناب ما نهى عنه، فتحصُل في شهر رمضان بأداء الصائم لفريضة الصيام كما يحب الله عز وجل ويرضى، ومن لم يحققها لم يتمكن من تحصيل الفرقان في فكره وسلوكه، قال تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)) [الأنفال: 29].
وهكذا تتبين لنا الصلة المتينة العميقة بين الصيام والقرآن، وبذلك ندرك لماذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر من قراءة القرآن في رمضان. فقد روى عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قَالَ: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدَ النَّاسِ وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ وَكَانَ جِبْرِيلُ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ فَلَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنْ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ).. فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يضاعف من إقباله على القرآن الكريم في هذا الشهر، ويضاعف من مدارسته له مع جبريل عليه السلام. والمدارسة ليست القراءة العابرة أو المطالعة المجردة، إنها الإدراك العميق لمعاني القرآن والتفهم الأكيد لهداياته.
هذه الهدايات والمعاني لا يصل إليها من يمر على الحروف والكلمات دون تدبر، أو من يقرأ القرآن وهو متلبس بالمعاصي الظاهرة أو الباطنة.. كلا، فهذه المعاني لا يصل إليها إلا من فتح لاستقبالها عقله وضميره، واستشرف إليها بنفس خاشعة راغبة، فإن كلمات القرآن لا تعطي مدلولها الحقيقي إلا للقلب المفتوح لاستقبالها وتقبلها، وإن هذا القرآن لا يفتح كنوزه ولا يكشف أسراره ولا يعطي ثماره إلا لقوم يؤمنون ويتقون، قال تعالى: ((ٱللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ ٱلْحَدِيثِ كِتَـٰباً مُّتَشَـٰبِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ ٱلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ ذَلِكَ هُدَى ٱللَّهِ يَهْدِى بِهِ مَن يَشَاء وَمَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ)) [الزمر: 23].
رمضان مناسبة لإصلاح علاقتنا بالقرآن
مما هو معلوم أن قراءة القرآن الكريم أمر مطلوب بحد ذاته باعتباره عبادة قائمة يستحق عليها المؤمن الأجر والثواب، فالمطلوب من المؤمن أن يقبل على القرآن الكريم يكثر من تلاوته وتدبره تقربا إلى الله تعالى وطلبا لمرضاته وتعرضا لفضله وثوابه، وعملا بما فيه من أوامر وتوجيهات، واستجابة لندائه عز وجل وامتثالا لأمره في قوله: ((وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ)) [القمر: 17]، وقوله: ((إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ. لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ)) [فاطر:29-30]، وطلبا للأجر المرصود لقارئ القرآن، فقد روى أبو داود والترمذي والنسائي عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يقال لصاحب القرآن: اقرأ وارتق، ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها). وروى الترمذي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: الم حرف، ولكن: ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف).
وإذا كان مطلوبا من المؤمن أن يقرأ القرآن آناء الليل وأطراف النهار في سائر الشهور وفي كل يوم من أيام العام، فإن في شهر رمضان يزداد الأمر بقراءة القرآن الكريم ومدارسته تأكدا، وخاصة إذا قرأه المؤمن وهو يقوم الليل راكعا ساجدا، فإن لذلك فضلا عظيما وثوابا جزيلا عند الله سبحانه وتعالى. روى الإمام أحمد رحمه الله في مسنده عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (الصِّيَامُ وَالْقُرْآنُ يَشْفَعَانِ لِلْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. يَقُولُ الصِّيَامُ: أَيْ رَبِّ مَنَعْتُهُ الطَّعَامَ وَالشَّهَوَاتِ بِالنَّهَارِ فَشَفِّعْنِي فِيه.ِ وَيَقُولُ الْقُرْآنُ: مَنَعْتُهُ النَّوْمَ بِاللَّيْلِ فَشَفِّعْنِي فِيهِ. قَالَ: فَيُشَفَّعَانِ).
وهذا ما كان عليه حال السلف الصالح إذا جاء رمضان، حيث يُكثِرون من تلاوةِ القرآنِ في رمضانَ في الصلاةِ وغيرها. فالإمام الزُّهْرِيُّ رحمه الله كان إذا دخلَ رمضانُ يقول إنما هو تلاوةُ القرآنِ وإطْعَامُ الطَّعامِ. وكان الإمام مالكٌ رحمه الله إذا دخلَ رمضانُ تركَ قراءةَ الحديثِ وَمَجَالسَ العلمِ وأقبَل على قراءةِ القرآنِ من المصْحف.
نرجو أن يستثمر المسلمون فرصة شهر رمضان لإعادة ربط الصلة بالقرآن وإصلاح العلاقة به، وأن تنتهي حالة الهجر التي يتعاملون بها مع كتاب الله عز وجل الذي ما أنزل أصلا إلا ليكون منهاجا يحكم حياتهم ونظاما يسير شؤونهم.