حــول فـكـرة أسـلـمـة المــعـرفـة -02 / عبد القادر قلاّتي

ـ
وقريبًا من هذا تأتي أطروحة الفاروقي حول الأسلمة؛ فهو يرى أن مرض الأمة لا يداوى «إلا بجرعة إبـستملوجية، وأن أصعب مهمة تواجه الأمة الإسلامية هي إيجاد حل لمشكلة التعليم» ذلك أنه لا أصل في نهوض هذه الأمة من ركودها الحضاري وربطها بدورة حضارية جديدة، ما لم تبدع نظامًا تعليميًّا تلغي به هذه الازدواجية الراهنة في التعليم الذي انقسم إلى نظامين : ديــنيّ وآخــر دُنـيـوي.
ـ
ودعا الفاروقي إلى إيجاد هذا النظام التعليمي الذي «ينبع من الروح الإسلامية، ويعمل باعتباره وحدة متكاملة مع برنامج الإسلام العقدي»، ويحدد الفاروقي في خطته للأسلمة خمسة أهداف هي:
ـ
– التمكن من العلوم الحديثة.
– التمكن من التراث الإسلامي.
– إثبات الصلة بين الإسلام ومختلف فروع المعرفة الحديثة.
– البحث عن وسائل تمكننا من التأليف المبدع بين التراث والمعرفة المعاصرة.
– وضع الفكر الإسلامي في المسار الذي يتيح له إنجاز النموذج الإلهي.
ـ
إن التطبيق العملي لهذه الخطة يقوم على افتراض أساسي هو البدء بالمجالات المعرفية كما هي الآن في سياقاتها الغربية. مع شيء من الحذف والإضافة لتتم في الأخير الأسلمة المطلوبة أو كما يرى الفاروقي. والفاروقي باعتباره من المشتغلين بالعلوم الاجتماعية كان تركيزه الأساس في دعوته إلى الأسلمة، هو أسلمة هذه العلوم تحديداً. فهو يرى أنها العلوم أكثر ترويجًا للنموذج الحداثي الغربي ومفاهيمه الخاصة بالدولة ـ الأمة، والهوية العرقية».غير أن الفاروقي أغفل ما للعلم والتنكولوجيا من دور في المحافظة على الأنساق الاجتماعية، والاقتصادية والسياسية التي يسيطر بها الغرب على العالم. لم يعد المجتمع (الغربي تحديداً) يصاغ من مفاهيم العلوم الاجتماعية بل إن هذه الوظيفة انتقلت إلى المعرفة العلمية والتكنولوجية التي أصبحت «هي الأداة الرئيسية للإمبريالية المعرفية الغربية».
ـ
إن المعرفة لا يمكن فصلها على التصور والنظام العقدي الذي تمتد فيه جذورها وأي محاولة لاختراق هذا المفهوم وتصور إمكانية تجاوزه، لا تقود إلى أي مشروع إيجابي؛ فالإبـستمولوجيا أو نظرية المعرفة «تعمل على تحديد المعرفة والتمييز بين فروعها الرئيسية وتعيين مصادرها وإقامة حدودها. إن إمكانية وكيفية المعرفة هي التساؤل المركزي للإبستملوجيا..»، لذا فإن محاولة أسلمة الفروع العلمية والمعرفية التي تطورت في الوسط الثقافي والاجتماعي الغربي، هي غير ذي جدوى فجدير بعلماء الأمة والمشتغلين بالبحث العلمي أن يوجهوا طاقاتهم لإبداع منظومة معرفية تستند إلى الإطار المرجعي الديني الذي يملك منهجيته ومفرداته ومفاهيمه. حتى نصل إلى مرحلة إبداع علوم تختلف عن العلوم الغربية المعاصرة، فلا نستطيع مثلاً أن نقول بأسلمة الأنثربولوجيا، العلم الذي نشأ في إطار ظروف خاصة، وقام على أسس ومبادئ معينة، أو نزعم أنه بإمكاننا أن ننشأ علم أنثربولوجيا إسلامي، ذلك خطأ منهجي يتضمن قبول الحدود الاصطناعية التي وضعت لهذا العلم ضمن المنظومة الحداثية الغربية.
ـ
إن أسلمة المعرفة ليست إلا مغالطة إبستملوجية أظهرت الإسلام وكأنه دين يحتاج إلى الارتباط بالمعرفة الحديثة متغافلة عن حقيقته كدين صالح لكل زمان ومكان (وهو مفهوم مركزي في المنظومة المعرفية الإسلامية)، فحاجة الأمة إلى التقدم الحضاري يجب ألا تتجاوز أبعاد هذا الدين وحقيقته.
ـ
كما يجب علينا كأُمّة أن نعترف بأن أبستومولوجيا العلم الغربي هي التي صاغت العلم الحديث. «إن أبـستملوجيا العلم الحديث هي التي تحدد الطريقة التي تمكن الأفراد في المجتمعات المصنعة من تصور «عالمهم» ومحاولة معرفته وفهمه والسيطرة عليه. وتركز هذه الإبستملوجيا أساسًا على التمييز بين الذاتية والموضوعية… إن هذه الثنائية بين الوقائع والقيم، الحقيقة الموضوعية والإحساس الذاتي تمثل الميزة الرئيسية لإبستملوجيا العلم الحديث، إنها طريقة معرفية تناقض تلك التي تسود في كثير من المجتمعات التي تتصور الحكمة والمعرفة في حالتها الشعورية الذاتية».
ـ
إن الغرب وعبر فلاسفة كثر بدأ يبحث عن أبستومولوجيا بديلة لتلك التي ارتبطت بالمغامرة الأستدماريةالأوروبية وبظهور العقلانية العلمية كوسيلة شرعية وحيدة لفهم الطبيعة والسيطرة عليها. فلماذا لا نبدأ نحن محاولاتنا التجديدية بالبحث عن صيغة لتصور ذاتي للمعرفة ؟ مستند إلى مفهوم العلم، المصطلح الأقرب إلى الـرّؤية الإسلامــيّة. بـل هـو المفهوم الوحيد والمركزي لما قد نسميه بإبـستملوجيا إسلامية. فقد ظل العلم عبر تاريخ أمتنا الطويل يربط المجتمع الإسلامي بمحيطه ويعطي للإسلام حركته وحيويته .
ـ
إنه في ظل هذه الدعوة –صناعة إبستومولوجيا إسلامية – يجب على الحركة التجديدية أن توظف طاقاتها وقدراتها في طرح خطاب تجديدي متماسك يستند إلى الذات بعيداً عن فتنة النمط الحداثي الغربي، فالأسلمة أشبه ما تكون كما ( يرى ضياء الدين سردار ) بعملية إعطاء روح من القيم الإسلامية في حقول معرفية تشكلت بالرؤى الكلية والمفاهيم واللغة والنماذج المعرفية الغربية، وهي كما يخشى ( سردار ) أقرب إلى تغريب الإسلام منها إلى أسلمة المعارف الغربية.
ـ
* هذا المقال جزء من دراسة حول التجديد نشرتها في موقع إسلام اون لاين عام 2003 .