غفلة وتسامح وميلاد الفساد/ الأستاذ إبراهيم قمور
التغافل والتسامح في شؤون المراقبة والمحاسبة من بين الأبواب المفتوحة على إضاعة المقومات المؤثرة في رعاية الواجبات والحقوق، وعلى الصور السوداء التي تعكس عجز المجتمع عن حفظ روابط التكافل والتكامل في نشاط فئاته المتنافسة،
ومن علامات يقظة المجتمع وقدرته على حماية أعضائه أو أفراده من ارتكاب الجرائم والأخطاء الناجمة عن الإهمال والتقصير، أنه لابد من المتابعة والمحاسبة، ليكون التنظيم متماسكا والاستقرار متينا، ويبدو أن السبب القوي الذي يستحق لأجله المجرمون والخطاءون العذاب عقابا لهم، أنهم لم يكونوا يؤمنون بالمحاسب، وكانوا يتعجبون في أنفسهم، ويتساءلون في حيرة، كيف نعود إلى الحياة في الآخرة، وقد استحالت أجسامنا إلى تراب وعظام نخرة؟ وإذا تتبعنا أنواع الجرائم والفساد من حولنا في شتى القطاعات والميادين وجدناها، أو وجدنا أكثرها منبعثا وناشئا من أن أفراد في المجتمع لا يتوقعون حسابا وجزاء على تصرفاتهم كلها، ولذلك فهم ينطلقون في سلوكاتهم مما يحبونه وتشتهيه أهواؤهم، ولو اختلط بالحمق والمضرة، وقد عبر القرآن الكريم عن هذا الموقف في الآية (27 من سورة نبأ بقوله تعالى:{إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَاباً، وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّاباً}، وليخطب الواعظون، وليجتهد المصلحون، وليتوعد أهل الأخلاق ما شاءوا، فلا تأثير لمنع النفوس من الميل إلى ما تهواه فيما يجري من الشؤون الدنيوية، ولهذا فالقوة التي تمكن من الصلاح للمجتمع في الحياة الدنيا لتستقيم معاملاته وتصفو مشاربه وتزدهر أحلامه وطموحاته، هي نفس القوة التي تعين على الاستعداد للنجاة من العذاب الأليم في الآخرة، والمؤكد أن الكفار يعاقبون بشدة يوم القيامة على فسادهم، لأنهم لم يكونوا ينتظرون حسابا، وهذا الاقتناع جعلهم يقبلون على اللذائذ والمتع بدون نظام أخلاقي يراعي شروط العدالة والتكافل المأمول..إن ظاهرة الجرائم والفساد التي نشاهدها يوميا، والتي يكثر في شأنها الحديث والتعاليق، قد انتشرت بهذه الكيفية، لأن طائفة من أعضاء المجتمع أصبحت لا تتوقع حسابا هنا أو هناك، ولذلك راحت تسعى إلى اكتساب ما تقدر عليه من مال وجاه ومكانة بقطع النظر عن ألوان المضرة التي تلحقها بالآخرين، سواء أكانوا مؤسسات عمومية أو مصالح خاصة، ولاشك في أن توقع الحساب وانتظاره والخوف من عواقبه، والحياء من انعكاساته الاجتماعية، مما يجعل المجتمع متماسكا ومنطلقا إلى المعالي بحماس، ومن أسباب هذه الجراءة التي تطبع أعمال مرتكبي الجرائم والفساد، ضعف العدالة أمام قيامها بوظيفتها، تغافل وتسامح المجتمع مع المجرمين والمفسدين، غفلة الضمير الفردي عن الإحساس بالتأنيب عند الانحراف والزيغ عن جادة الصواب، فهذه العوامل متعاونة تساعد على تكاثر الجرائم وهجوم الفساد مثلما تؤكد مدارس الجزاء في علم الاجتماع الحديث، والخلاصة هنا: أن الردع إزاء الجرائم يكون من جانب السلطان الحاكم، أو من جانب المجتمع، أو من جانب الضمير الحي الذي يضطرب في غمرة الأحداث المؤثرة، وديننا الإسلامي الحنيف لم يغفل تأثير هذه العوامل، بل إنه فاق كافة الشرائع في هذا الاتجاه، لأنه يحتاط للجريمة قبل وقوعها، كما يحتاط للفساد قبل حدوثه وانتشاره، فديننا الإسلامي الحنيف يبين للمؤمن خصوصا والإنسان عموما، أنه إذا اختفى في عمل عن أعين القضاء في المحاكم، فإنه لا يستطيع الاختفاء عن قضاء السماء، وأن العصمة من الجرائم والفساد تنبني على نوعية ودرجة التربية والتكوين اللذين يفضيان إلى الاعتقاد الراسخ بأن الإنسان محكوم عليه ومحاسب في الآخرة أمام خبير عليم لا تخفى عليه خافية، ولا قدرة لأحد أن يستتر منه يومئذ، وإذا نجا الإنسان في هذه الدنيا من عقاب السلطان أو المجتمع أو الضمير بعد المحاسبة، فإنه لن تكون له هذه النجاة أمام الحليم الخبير الذي يقول في الآية 19 من سورة غافر:{يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} وإنه لا يقدم على الجريمة والفساد مؤمن عميق الإيمان بالوازع الديني الذي يؤكد بالحجة والبرهان وجود رقيب وحسيب لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير، إن الذين لا يرجون حسابا في الآخرة، ولا يردهم الحياء، إلى الصواب في الدنيا، هم الذين يتجرأون على تخريب الفضائل التي تستقيم بها الحياة، ومهما يكن الأمر فالمراقبة والمحاسبة الداخلية والخارجية من أساليب تحقيق الضبط والانضباط، وأي تغافل وتسامح عاقبتهما النتائج الوخيمة، ومن الغفلة والتسامح يولد الفساد.