مصرف السلام الجزائر .. خدمات بنكية أصيلة
بحوث و دراسات

الاستعمار ومصادرة الأحلام في مرحلة ما بعد الاستقلال /الأستاذ: محمد لعاطف

latafيواصل الاستعمار بعد الاستقلال نشاطه المرتبط بالصراع الفكري لافتضاض الضمائر وترويضها وفق ماخططته مخابره المختصة ليتسلى بردود أفعالنا الانفعالية غير المحسوبة العواقب والتي تستدعي الضحك والبكاء في الوقت نفسه:”إنّ الشيطان يريد أن يتسلى على  حسابنا أحيانا, أن يرى كيف ندخل في جحورنا الصغيرة, عند أدنى ضربة جرس أنا لا أقول إنّ لعبته ـ عندما يريد أن يلعب ـ  بريئة براءة لعبة الأطفال, كلا بالطبع … فلعبته ذات تكتيك وتقنية, بل أنها سياسة عليا”[i].

وحتى يختلس الاستعمار ثمار النصر العسكري الذي أرغمه على سحب جيوشه يعزف على وترين مختلفين في ظاهرهما لكنّهما يحققان نفس النتيجة وهما وتر التفكك ونشر الرذيلة ومحاربة القيم الأخلاقية العليا, ووتر اللذة المؤقتة الوهمية التي قد تدفع بصاحبها إلى حد السكر والإغماء بمعنى أنّ الاستعمار:”يضع رجله على الدعسة التي توجه الضياع والتفكك والانحلال في الدول النامية, والتي تؤدي إلى فسادها وخمولها وتعفنها, وإلى الأمام على هذه الدعسة إنّها موسيقى تسحر حتى البلاهـة, حتى النشوة, حتى الفنـاء حتى الحلم, وإلى غيبوبة الرادارات العربية صبيحة 5 حزيران. وإذا لم تنسلخ نخبة هذه الأمة ومسؤولوها, وشعبها عن ذلك السحر فإنّ تلك الموسيقى, وذلك الصوت العليل الرقيق, سيستمران حتى لاتعود كلمة استقلال تعني شيئا على الإطلاق, سوى تلك السخرية الشنيعة التي تهيمن على مصير أمة فائقة التخلف”[ii].

 وهذا ما تحقق فعليا في واقعنا بحيث أن:”الاستقلال الذي ظن العالم الإسلامي أنه قد حصل عليه في هذا القرن, ظل استقلالا مفرغا من محتواه ومعناه, وذلك لأن المسلمين جهلوا ما ترتب عليه من مسؤوليات, فإن كان الاستعمار الفكري قد رحل بعصاه فقد بقي غزوا فكريا في الصميم حتى غدا هذا الاستقلال المزعوم خاويا عمليا من المضمون, وواقع التخلف الحضاري الذي يحياه العالم الإسلام يفوق ضرره وخطره الاستعمار المكشوف ذاته”[iii].

نعم هذه هي الحقيقة التي أكدها واقع الشعوب الإسلامية , فقد تمت مصادرةاستقلالها, واغتيلتثوراتها, وساد الاقتناع عند بعض ضحايا اللعبة الاستعمارية من أجيال مابعد الاستقلال بأنّقادةالثوراتوصانعيالتاريخالعربيالمعاصرساهموافيتخلفالأمةومراوحتهامكانهابسببمواجهةالمستعمروإخراجهمنالبلاد, متجاهلين أنّ وظيفة الاستعمار في البلاد المستعمرة, هي استعبادأهلهاوليستحضيرهم وهو ما يبين أن:” لعبة الصراع الفكري لم تنته بإنزال الستار عن حقبة الاستعمار المباشر, أو توقفت ولا حتى اعتراها الضعف والركود فلازالت تنشط وتدار من مؤسسات عالية المستوى, ومن خبراء اختصاصيين من أصحاب العلوم الاجتماعية”[iv].

ولمّا كان الاستعمار يدرك صعوبة تعميم القوانين والأحكام فيما يتعلق بالظواهر الإنسانية والاجتمـاعية, راح ينوع الخطط التدميريـة حسب طبيعة المتغيرات الجغرافية والبشرية ف:”هذه الدعسة لا تضرب على وتر واحد, بل إنّها تعطي سُلَّما كاملا من النغم, فلكلٍ معزوفته الخاصة, حسب مزاجه ووضعه الجغرافي وحسب الظروف الدولية”[v].

وقواعد اللعبة الاستعمارية لاتسمح لأي كان أن يُشوش على الاستعمار ويفسد عليه لعبته المسلية على حساب صبيانية أبناء العالم العربي والإسلامي: ”ولكن إذا كانت حكومة ما, أو نخبة ما أو شعب ما, أو شخصية فريدة ما, أو إنسان ما كمصدق, إذ كان من الجرأة والصلف حيث يعكر حلم هؤلاء وكابوس أولئك, ماذا يجرى عندئذ في قاعة الاستماع ؟.  فيما يتعلق بمصدق, أنتم تعلمون ما جرى”[vi].

ويوظف الاستعمار قوته المادية لحماية مخططاته التدميرية وإرغام الجميع على السير وفق ما رسم من خطط مسبقا وكل من يرفض الانضمام إلى القطيع إمّا باسم المبدأ, أو الأخلاق أو العزة أو غيرها من المبررات له لغته الخاصة التي يُخاطَب بها, وفي هذا يقول بن نبي على لسان الاستعمار: ”آه هكذا إذن أنتم لم تعودوا تريدون أن تبقوا في ذلك الفساد !! ولا ذلك المستنقع الآسن!! ولا النيرفانا والتام تام!! أنتم تريدون على حد قولكم الطهارة !! والاستقامة!! والنظام! والحركة!  والعمل! إذن انتظروا, ويضع الموسيقي الماهر رجله على الدعسة الأخرى. لهذا التغيير دلالة ! إنّه سلم نغم التهديد والوعيد والابتزاز”[vii] .

وهذه هي لغة عصابة الأشرار التي تسيطر على العالم اليوم, وتوظف قاعدة “مبدأ الثالث المرفوع” “من ليس معنا فهو ضدنا” ليسود الرعب أرجاء العالم شعوبا وحكومات ويُطل علينا زعيم العصابة عبر الفضائيات ليقول لنا:  ”تعفّنوا بهدوء ! لا تسمعونا أصواتكم, لا احتجاجاتكم, في القاعدة التي تصدح فيها موسيقى النيرفانا, والتام تام, والأحلام والكوابيس, وعلى حكومتكم أن لاتزعج النّاس الذين يتمتعون بالحياة النّاعمة في الداخل والخارج, ببضع مشاريع تُحسِّن بها الجو الاقتصادي والاجتماعي والسياسي ولتغمد إرادتها الضعيفة في جيبها, أو في رأسها أو حيث تشاء”[viii].

ثم يواصل الاستعمار شرح خطابه ميدانيا بالهجوم على أفغانستان واحتلال العراق, ومعاقبة الشعب الفلسطيني على اختياره الديمقراطي, وإرسال رسائل تهديد مشفرة بين الحين والآخر لباقي الحكومات المستضعفة, وهذا ما أشار إليه بن نبي قبل قرن من اليوم في قوله:”هذا ماتعنيه لعبة الدعسة الجديدة, بالطبع, إذا أصررتم, وإذا أرادت حكومتكم أن تدخل مرحلة التنفيذ, عندها يمكن للموسيقي الماهر الذي يدوس على هذه الدعسة أن ينتقل إلى نوتة النابالم, وإلى سلم مشاكل على الحدود”[ix], وتثوير الأقليات العرقية والطائفية وإمدادها بالدعم المادي والمعنوي, أو حتى السعي إلى إخراج الجماهير إلى الشارع للمطالبة بالتغيير والعدالة الاجتماعية, وما ذلك بالأمر الصعب على من كان يمتلك قاعدة معطيات كافية حول الأرضية التي تدور فوقها معركة الصراع.

وهذا مايدفع للتأكيد أن:”الاستعمار مثَّل الوجه البشع في تاريخ الإنسانية, وهو أكبر عملية تدمير منظمة تعرض لها العالم الإسلامي, ولازالت أثاره عميقة في المجتمعات الإسلامية, ومثَّل أكبر انعطافة تدميرية في تاريخ الأمة الإسلامية الحديثة”[x].

ولعّل من أسباب الهوة المعرفية الواسعة بيننا وبين الاستعمار في مجال الصراع الفكري على وجه الخصوص هو أنّه:”عند الاستعمار معلومات عنّا أكثر بكثير مما عندنا عنه, إنّه يكيف بكل بساطة موسيقاه وفقا لانفعالاتنا ولعقدنا ولنفسيتنا, إنّه يعرف مثلا أنّنا اتجاهه لا نفعل وإنّما ننفعل, وهو عندما يكون قد دخل مرحلة التفكير في مشاكل الغد في الحفر الموحلة التي يريد أن يوقعنا فيها, نكون نحن لانزال نفكر في مشاكل الأمس في التخلص من الحفر الموحلة التي أوقعنا فيها فعلا”[xi].

وما يؤسف له هو أنّنا :”لا نعرف شيئا عن الخاصية القوية للصراع الفكري الذي يطلقه الاستعمار في البلاد التي خرج منها, بعد أن استعمرها”[xii]. ونعتقد أنّ كل ما يهم الاستعمار هو السيطرة على مواردنا الطاقوية وغزونا اقتصاديا من خلال إغراق أسواقنا بمنتجاته وسلعه, من أجل الوقوف  في وجه حركتنا النهضوية التعميرية :”ولكنّ ينبغي أن نضيف بأنّ مناورات الاستعمار للانتقاص من أفكارنا أعني افتقادها فعاليتها في البناء الاجتماعي هي الأكثر خداعا, وأنّ نعترف في الوقت نفسه بأنّه لايوجد في بلادنا أية وقاية تمنع هذه المناورات من النجاح, بل العكس هو الصحيح”[xiii], وهذا ما وقع فعلا بعد الاستقلال حيث أنّ الاستعمار الذي طرد من الباب عاد من النافذة الفكرية وبقوة استطاع من خلالها توجيه مختلف المعارك لصالحه والسيطرة على مختلف المواقع الإستراتيجية التي يُرَاهن عليها لإخراج الأمة من تخلفها ولأنه:”يدرك خطورة عملية البناء الحضاري الجاد على نفوذه, فإنه يحاول سواء في مرحلة التحرير أو مرحلة البناء إشغال أبناء المجتمع الساعي للحرية والتقدم عن الهدف وإلهائهم في أمور لا تجدي”[xiv].

بل إنّ المتأمل المدقق والمحلل الناقد يجد أنّ بصمات الاستعمار موجودة في مختلف الأزمات التي تظهر هنا وهناك في العالم العربي والإسلامي بل إنّها ظاهرة في مختلف المشاريع الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي قد تعلق عليها الشعوب أملا في إخراجها من سجن التخلف, فهذه البصمات تظهر إمّا في شكل استفادة الاستعمار بطريقة مباشرة أو غير مباشرة من هذه المشاريع, كما قد تظهر في ذلك الجهد التخريبي والتدميري لمشاريع أصحاب النوايا الصادقة والجادة ف: “الاستقلال إذن ليس إخراج الجيوش, وتحديد يوم يكون ذكرى أو عيد للاستقلال, وليس تكليف لجنة حقوقيين بصياغة دستور للبلاد, الاستقلال أعمق من ذلك وأبعد أفقا, فهو صنع جديد للتاريخ, ونسف لكل المخلفات السلبية للاستعمار, وهجر لنوعية العلاقات الاجتماعية التي روج لها وشجعها خدمة لاستمرارية وجوده”[xv].

وهذا مما يدفعنا إلى الاستنتاج أنّ معركتنا مع الاستعمار في المجال الفكري أقسى وأصعب بكثير من تلك المعارك المسلحة التي قادها الرواد الأوائل من زعماء الحركات الثورية والتحررية خلال القرن الماضي  باعتبار أنّ المعارك الفكرية أكثر تعقيدا وتتطلب جهدا متكاملا من طرف جميع أبناء الأمة من دون استثناء مع التزود بسلاحي البصيرة والصبر لأنّ من طبيعتها أنّها لا تحسم بنصر كامل ونهائي لصالح أي طرف.



[i] مالك ابن نبي : ”من أجل التغيير”, ترجمة بسام بركة, عمر مسقاوي , ط1 , دار الفكر , دمشق, 1995, ص 102.

[ii] المصدر نفسه , ص: 102.

[iii] سليمان الخطيب: “فلسفة الحضارة عند مالك بن نبي, دراسة في ضوء الواقع المعاصر“, ط1, المعهد العالمي للفكر الإسلامي, المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع, بيروت,1993, ص260

[iv] زكي أحمد: مالك بن نبي ومشكلات الحضارة , ص93

[v] مالك بن نبي: من أجل التغيير, ص103

[vi] المصدر نفسه ,ص 103

[vii] المصدر نفسه, ص 103

[viii] المصدر نفسه , ص 10

[ix] المصدر نفسه , ص104

[x] زكي أحمد: مالك بن نبي ومشكلات الحضارة , ص87

[xi] مالك بن نبي: من أجل التغيير, ص 105

[xii] المصدر نفسه , ص 15

[xiii] المصدر نفسه , ص 16

[xiv] أسعد السحمراني: مالك بن نبي مفكرا إصلاحيا, ص167 و168

[xv] المرجع نفسه , ص166

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى