أهمية الحضارة من خلال قصص الأنبياء في القرآن الكريم/أ.ابن ادريسو مصطفى
أهمية الحضارة من خلال قصص الأنبياء في القرآن الكريم سيدنا سليمان عليه السلام أنموذجا
إن قَصص الأنبياءِ عليهم السلام وسيلةٌ لتثبيت قلب رسول الله صلّى الله عليه وسلم وتسليته، وهديٌّ ورحمةٌ للمؤمنين إلى يوم القيامة، يقول تعالى: إِنَّ هَذَا الْقُرْءَانَ يَقُصُّ عَلَىا بَنِي إِسْرَآءِيلَ أَكْثَرَ الذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ(76) وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُومِنِينَ(77) ، فأحداث قَصص المصطفين الأخيار الذين أرسلهم الله مبشرين ومنذرين هي حقائقٌ كونية وقعت في الزمن الماضي، ولا يزال إشعاعها يستنار به لحاضرنا، وسيبقى عبقُ نورِها يُستشرف به لمستقبَلنا، ذلك أن هذا القَصصَ لم ينزله الله تعالى في كتابه الكريم لمعرفة القِصص الغابرة، والوقوف على الأحداث الماضية فقط، وإنما قص الله علينا قَصصه للاعتبار بها في كل زمان ومكان، وللاقتداء بنهج الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في أفعالهم وأقوالهم، والاستفادةِ من جهادهم وحيثيات دعوتهم، فقال تعالى: إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنِ اِلَهٍ اِلاَّ اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
ووضح الله لنا الغرض من إرسال رسله فقال: رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِيَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةُم بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا، فالحقيقة العظمى التي حملها الأنبياء على كاهلهم هي دعوة الخلق إلى عبادة الله الواحد القهار( )، وإيضاح ما أبهم على الناس، وبيان ما غاب عن أنظارهم، فلذلك كانوا مجدين في إعلام أقوامهم بالمصير المحتوم للإنسان في الآخرة، وترشيدهم إلى سنن الله في كونه، والتي من أعظمها مجازاة المحسنين على إيمانهم وعملهم الصالح، ومكافأة المعرضين عن الله بالعقاب الأليم، وهذا ما حكاه الله على لسان رسوله محمد في أكثر موضع في القرآن الكريم، مثل قوله تعالى: قُلْ يَآ أَيـُّهَا النَّاسُ إِنَّمَآ أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ. وقوله أيضا: وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُـبَشِّرًا وَنَذِيرًا.
مشاركة الأنبياء أقوامهم في صنع الحضارات:
لم تقم الحضاراتِ إلا بعد مجيء الأنبياء عليهم السلام؛ هداةً ناصحين إلى الحق، ودعاة موجهين إلى التفاعل الإيجابي مع كون الله، وإن غيبت القراءةُ الجوفاءُ في كتب التاريخ المعاصر الدورَ الأساس للأنبياء في بناء حضارة أقوامهم، وأبعدت تحليلاتُ الأوربيين الذين فكوا رموزَ الكتابات القديمة ورسومَ الحفريات معاني توحيد الله، فصاروا يفسرون كلَّ صور الحكام على أنها رموز للآلهة المتعددة، ويحللون كلَّ شيء بمنطق الوثنية والشرك، وغرضُهم في ذلك إقرار حرية الإنسان الأول من القيود، وتوثيقُ الانحلال الخلقي والفحش والمنكر كأصول متجذرة في العنصر البشري.
فلو أخذنا كمثال الحضارة المصرية فسنجد أنها انتشرت في بلاد صحراوية تحرقها الشمس، واحتشدت في واد ضيق يرويه نهر النيل، واتسعت إلى عدة مدن، ودامت 30 قرنا( )، السلطة الكاملة فيها للحكام الفراعنة الذين يقال إنهم يعتبرون أنفسهم آلهة، أو ينحدرون من نسل الآلهة، لإعطاء المهابة للحاكم، والاستسلام له بالسلطة المطلقة في تسيير الدولة. وكانت صورتهم في الغالب على هيئة بشرية برؤوس حيوانية دليلا على اتحاد الإقليم الجنوبي مع الشمالي، الذَين كانا يتميزان برموز خاصة لكل منهما ( ).
وأغلب تفسيرات هذه الحضارة انطلقت من خلال أبحاث شامبليون( ) الذي فك شفرة اللغة الهيروغليفية، بتفسير الإشارات التي تحتوي على أشكال من الطبيعة والإنسان والحيوان والنبات والماء والشمس وغيرها من الظواهر الطبيعية على أنها آلهة، وسارت الأبحاث بعده على تحليلاته، وغيب أثر الأنبياء مطلقا من حياة هذه الحضارة رغم أن إسماعيل حامد عدد 19 نبيا عاشوا على أرض مصر( )، وعلى رأسهم سيدنا موسى ويوسف عليهم السلام.
فلو أعاد الباحثون المسلمون المتخصصون قراءة الأثريات بمنطق قوله تعالى: وَإِن مِّنُ امَّةٍ الاَّ خلاَ فِيهَا نَذِيرٌ، وقولِه أيضا: وَمَا كُنـَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىا نَبْعَثَ رَسُولاً، وبإشعاع الآية الجامعة: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالاِنسِ أَلَمْ يَاتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمُ ءَايَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَىآ أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُواْ عَلَىآ أَنفُسِهِمُ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ(130) ذَالِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبـُّكَ مُهْلِكَ القُرَىا بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ. لتوصلوا إلى نتائج مختلفة عما يشاع عن حضارة مصر، ولأدركنا قيمة التغييرات التي أحدثها الأنبياء في المجتمع المصري، ولعلمنا أن هذه الحضارة الطويلة لم تكن كلها وثنية كما يشاع، فهذا غير معقول تماما، ويتعارض مع نواميس الله في كونه، وإنما كان للأنبياء دور مهم في توجيه الناس في دنياهم وآخرتهم، وإيقاظ الهمم لصنع مجتمع متحضر، وإلى استغلال كون الله المفتوح لاكتشاف آلائه، وكشف أغواره.
ويمكن أن نستدل كذلك بسيدنا نوح حينما نبه قومه إلى ظواهر طبيعية في غاية الوضوح، فبين لهم ضياء الشمس، وانعكاس ضوئها على سطح القمر ليشع نورا يتلألأ في الليلة المقمرة، فقال لقومه: اَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا(15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا، وهو بهذا سابق لكل النظريات العلمية والحضارات التاريخية في اكتشاف حقيقة القمر. كما أن سيدنا إبراهيم أشار إلى قومه بالنظر في الأفلاك والنجوم والتمعن في ظهورها وخفائها.
أهمية الحضارة في دعوة سيدنا سليمان عليه السلام:
من أراد أن يتحدث عن الحضارة التي تُعرَّف بأنها تفاعل الإنسان مع الكون والحياة، فعليه أن يستذكر قصة نبينا سليمان الأواب، هذا النبي الذي تفاعل مع الإنسان والطير والجن وأجريت له الريحُ رخاءً وعاصفةً، وسخر الله له الشياطينَ يبنون له الأعاجيبَ ويغوصون في البحر، ووُهب له الخيلَ السراع، والجيشَ المطاعَ المنظم، ووُهب فوق كل هذا المـُلكِ التذللَ لمالك يوم الدين، والخضوعَ للقاهر فوق عباده، فقال الله عنه: “وَلَقَدَ ـ اتَـيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا، وَقَالاَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الذِي فَضَّلَنَا عَلَىا كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ الْمُومِنِينَ”.
فقد تفقّد سيدُنا سليمانُ ذاتَ مرة جندَه من الطير، فلم يجد بينهم طائرَ الهدهد، فقال: “مَا لِي لآَ أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَآئِـبِينَ”، وتوعده بالعقاب إلاَّ أن يأتي بدليل يبرر غيابَه.
ولما عاد الهدهد أسرع لإعلام سليمانَ وقدم له تقريرا عن الحالة السياسية، والاقتصادية، والدينية للمملكة التي عاينها وزارها، ثم أمره سيدنا سليمان أن يحمل رسالةً إلى هذه الملِكة فقال: “اذْهَب بِّـكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ”.
ألقى الهدهدُ الكتاب بين يدي الملِكة، فلما قرأته، جمعت وزراءَها ومستشاريها قائلة: “يَآ أَيـُّهَا الْمَلأُ اِنـِّيَ أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ”، وتلت عليهم مضمونَه، وفيه: “إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَاتُونِي مُسْلِمِينَ”، ولما أكملت قراءته، أجمعت حاشيتها واستشرتهم ثم قررت الملكة الحكيمة أن تصانع سليمان بالهدايا، ولما تلقى سليمان هدايا الملكة قال: “قَالَ أَتُمِدُّونَنِي بِمَالٍ فَمَآ ءَاتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّآ ءَاتَاكُم بَلَ اَنـتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ”. وأعلن بذلك عن عدم حاجته إلى المال، فإنما هو رسول من الله، وصاحبُ دعوة ربانية، فرجع الرسل محملين بالتهديد الشديد.
عزمت الملكة على الاستسلام والانقياد، وشدَّت رحالَها وأحمالَها، وسارت برَكْبِها إلى سليمان.
وقبل وصول القوم طائعين منقادين إلى سليمان، قال لوزرائه من الإِنس والجن: “قَالَ يَآ أَيـُّهَا الْمَلأُ اَيـُّكُمْ يَاتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَّاتُونِي مُسْلِمِينَ”. فتسارع جنودُ سليمان وأنصارُه لتلبية الطلب، وإذا بعرش ملكة سبأ حاضرٌ بين يدي سليمان قبل أن يرتد إليه طرفه. فلما رآه مستقراً عنده قال: “قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبـِّي لِيَـبْلُوَنِيَ ءَآشْكُرُ أَمَ اَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبـِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ”.
امتحن سليمان قوة ملاحظة الملكة فغير بعضَ معالمِ عرشها، ونكَّرَه لها، فقيل لها: “أَهَكَذَا عَرْشُكِ؟!” فنظرت إليه وتأملته ثم “قالت: كأنه هو” وهي قولة دبلوماسي فَطِن. لتعلن بعد ذلك أن الذي جاء بها إلى سليمان هو ما سمعته عن قوة سلطانه، وملكه العظيم، وأنه مؤيد بما لم يؤيَّد به ملِكٌ آخر.
ثم دُعيت الملكةُ إلى دخول الصرح الذي أعدَّه لها سليمان، وجعل أرضَه ممرَّدَة من زجاج لامع، ومهيَّئةً بشكل يخَاله الناظر بِركةً، فقيل لها: “ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتـْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا”، فقال لها سليمان: “إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِيرَ”، فأدركت في ذلك الموقف أن علمها وحضارتها لم يسعفاها للتفطن إلى مظاهر هذه الحضارة الجديدة الراقية، فأعلنت إيمانَها وقالت: “رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ”.
يستوقفنا في هذه القصة الإيمانية استعمال سيدنا سليمان كلَّ مظاهر العظمة في حضارته لدعوة ملكة سبأ إلى الله الواحد الأحد، إذ أرسل إليها كتابا وصفه الله بأنه كريم، فبمجرد أن تلقته الملكة قرأت فيه حضارةَ سيدنا سليمان، وأدركت قدر المرسِل، فربما كان الكتاب من ورق راق وخفيف استطاع خلق ضعيف مثل طائر الهدهد أن يحمله آلاف الكيلومترات، ولنا أن نتخيل نوعية المداد والخط والزركشة التي طُرزت بها الرسالة، ولذلك وصفه رب العزة بالكريم.
وعندما حضرت الملكة بجيشها إلى سليمان وجدت عرشها الموصوف بالعظمة من رب العظمة ماثلا أمامها وقد غُيِّر فيه بعض الشيء، ولم يكتف هذا الحكيم بإحضار العرش وتنكيره، فإنه صنع للملكة قصرا جعل أرضَه من الزجاج، وأسال الماء من تحته، حتى توهمت الملكةُ وانخدعت، مع أنها تدرك ما يصنعه الخدم لملوكهم، وتعرف زخارفَ القصور وأبهاتِها، فكانت هذه العروض الحضاريةُ سببا لإسلامها، والحمد لله.
أفلا يستوقفنا هذا الأمرُ طويلا لنحاسبَ أنفسَنا، لماذا تخلينا عن صناعة الحضارة في عهدنا؟ ولماذا صرنا نستهلك حضاراتِ غيرنا؟ ولماذا تقدم غيرنا وتخلفنا نحن؟ ولماذا بتنا في مؤخرة الركب؟ ولماذا صار غيرنا يبيدنا ويستعبدنا؟
فهل من يوم نستفيق فيه من سباتنا، فنهتدي بهدي سيدنا محمد والأنبياء عليهم السلام من قبله، ونشاركَ الأممَ في الصناعة والفنون، ونستشعرَ رقابة الرحمن في تصرفاتنا وأقوالنا، ونعتقدَ أن الجالس في كرسي الدراسة هو العابد الحقيقي لله، وأن المهندس المبتكرَ لقانون طبيعي جديد هو المسبح لله عمليا بعد أن كان يسبح تسبحا قوليا، وأن الباحث الذي يجتهد في مخبره مكتشف لآلاء الله، ومستخرج لما سخره الله لنا من حيوان ونبات ومعادن وهواء، وأن العامل في متجره ووظيفته مستخلَف من الله في أرضه.
ودعاؤنا لله خالص أن يوفقنا –نحن المسلمين المعاصرين- للتحكم في زمام التكنولوجيا والعلم حتى تسلم لنا جموع الناس في الكرة الأرضية كما أسلمت مملكة سبأ بين يدي سيدنا سليمان عليه السلام بما أبهرها من مظاهر الحضارة والرفعة، آمين يارب العالمين.
1 ) الصابوني: النبوة والأنبياء: 36.