مصرف السلام الجزائر .. خدمات بنكية أصيلة
كلمة الرئيس

11 ديسمبر: التحول الخطير… في تقرير المصير..! بقلم أ.د عبد الرزاق قسوم

قسوم أ.د عبد الرزاق قسوم

  إن الذين كتب لهم أن يعيشوا مرحلة الثورة الجزائرية المباركة، ويعايشوا أحداثها، ليذكرون، ويدركون أهمية فلسفة العدد، في سير وسيرورة هذه الأحداث.

  فأول نوفمبر، و11 ديسمبر، و13 ماي، و19 مارس، و5 يوليو، كلها فواصل زمنية، ذات أحداث مثقلة بالمعاني، عند استعراض المحطات الكبرى لجهاد نوفمبر.

  واليوم، ونحن نعيش ذكرى الحادي عشر من ديسمبر، تستوقفنا هذه الذكرى، لاستلهام الرمزية في الحدث. فالذين واكبوا هذه الفاصلة الزمنية الهامة، في تطور الجهاد النوفمبري، وساهموا في صنعه، لتتراءى لهم مشاهد المظاهرات التي صاحبته، ووجوه الذين انغمسوا في هذا الحشد الشعبي، الذي غيّر مجرى التاريخ، وأخرج الثورة الجزائرية، من عنق الزجاجة، وألفى بها في شاشات الإعلام الدولي، وأروقة المحافل الدولية.

  كيف تم صنع هذه المظاهرات؟ ومن عمل على صياغتها بالشكل الذي أخرجت عليه؟ وما أهميتها في ميزان الحدث الوطني بوجه عام؟

  عندما يتم إخضاع مظاهرات الحادي عشر من ديسمبر للتحليل الوطني الدقيق والعميق، ومن داخل الحدث، تستخلص مجموعة من الدلالات، يمكن تسليط الضوء عليها، خدمة لتاريخ الوعي الوطني لدى الجيل الناشئ..ومن أهم هذه الدلالات:

1-       إن مظاهرات ديسمبر، قد جاءت كرد فعل قوي، مضاد، لمظاهرات المستوطنين الفرنسيين، الاستفزازية، التي جاءت بتحريك من غلاة الاستعمار، وبمباركة من الجنرالات المتمردين، خصوصاً في ما عرف بمظاهرات 13 ماي، التي قادها السفاح الجنرال ماسو، وزمرته.

  فقد مثلت مظاهرات 13 ماي استفزازا للضمير الوطني الجزائري، حيث عملت الأبواق الاستعمارية على ملإ الشارع بالعلم المثلث الألوان في كل مكان، وأضافت إلى هذا الاستفزاز، تكوين، ما عرف آنذاك، بلجنة الإنقاذ أو السلامة العامة، بإشراك بعض السذّج أو الخونة من الجزائريين. كما زاد من الاستفزاز إقدام بعض الطائشات الجزائريات من تمزيق “الحايك” رمز حجاب المرأة الجزائرية أمام وسائل الإعلام، وهو ما مثل عدواناً على كرامة الجزائرية، ومساساً بأنفة الرجل الجزائري.

2-       إن مظاهرات الحادي عشر من ديسمبر، قد جاءت نتيجة عمل توعوي كبير شارك فيه كل الوطنيين، وخاصة الطبقة المتعلمة آنذاك.

  فقد كان للمعلمين والمعلمات دور كبير في إذكاء روح الثورة في القلوب والعقول، ناهيك أن مدرسة –على سبيل المثال- كمدرسة “السنيّة” لحي بئر مراد رايس قد ساهمت بدور كبير في صنع الوعي الوطني.

  فإضافة إلى ما كانت تقوم به هذه المدرسة من جمع للاشتراكات وتوزيعها على أسر المجاهدين، والشهداء والمساجين، ومعظمهم لا يزالون أحياء، كان هناك العمل التربوي الذي كان يصاحب الجهد الاجتماعي والسياسي. وإن قدماء تلاميذ مدرسة السنة، وقد أصبحوا –اليوم- رجالاً، ليحفظون ولا شك بعض الأناشيد التي كانت تخفظ لهم، مثل نشيد:

يوم نُدعى للجهاد       نُصبح الجند الشداد

ونؤدي للبلاد           كل حق مخلصين

* * * *

قد حملت البندقية        ولها عندي مزية

فهي في الخطب بلية        تقتل الخصم المبين

* * * *

وأنا الساعي بنفسي     في حمى الأعداء أمسي

يُرهب الأعداء حسي    ولي الإقدام دين

وكذلك نشيد محمد العيد آل خليفة:

صوت بعيد المدى هل يُجاب

ناداكم للفدا بالرقاب

إلى الفدا! إلى الفدا يا شباب

  إن مثل هذه الأناشيد التي كانت تنقل إلى البيوت بواسطة الأطفال المتعلمين آنذاك، قد كانت خير وسيلة، لنقل الوعي الوطني إلى جميع الفآت.

3-       إن مظاهرات الحادي عشر من ديسمبر، والتي كانت متوقعة نتيجة الضغط الذي صنعه الاستفزاز الاستعماري، لم تكن مخططة، من حيث المكان، والزمان.. بل إنه ليمكن القول إنها جاءت عفوية، وتلقائية، لذلك اتسمت شعاراتها في البداية، بالسذاجة، مثل “الجزائر جزائرية”، وهذا شعار ديغولي.

   لذلك تدخلت الجبهة في إعادة صياغة الشعارات، وتنظيم المظاهرات، فخرجت الجموع في اليوم التالي حاملة شعارات أكثر دلالة، وأكثر عمقاً مثل:

“الجزائر عربية مسلمة”.

تحيا الحكومة المؤقتة الجزائرية“.

“يحيا الاستقلال الوطني”.

  إن مثل هذه الشعارات قد رفعت في مظاهرات حتى بئر مراد رايس، والضواحي المحيطة بها، وهو ما هز المستعمر وأرعبه. ومن الذين أشرفوا على هذه المظاهرات، مسؤول المنطقة آنذاك، سي “يحيى أحمد زيغم” مد الله في حياته، وكاتب هذه السطور، الذي كتب الشعارات على القماش، بالعربية والفرنسية.

  لذلك يمكن القول، إنه ما كان لمثل هذه المظاهرات، أن تجد لها القبول الشعبي، لولا الإعداد، والاستعداد، الذي صنعه الاستفزاز الاستعماري، والوعي الوطني..

  واليوم، وأنا أكتب عن هذه الأحداث الوطنية، الرمزية، لتتراءى لي وجوه، كنا نعدها من الأخيار، من المناضلين المجاهدين والشهداء، فمنهم ما قضى نحبه، ومنهم من ينتظر، وما بدلو تبديلا.

  فليدرك الجيل الجديد، جيل الاستقلال المبارك، أن ما بين الفاتح من نوفمبر، والخامس من يوليو، هناك معاناة، وهناك تضحيات، وهناك اعتقالات، ومظاهرات، ويكفي دلالة على ذلك الإضراب العام الذي شل الجزائر لمدة أسبوع، إعراباً عن التعبئة الوطنية، وتحدياً للقوة الاستعمارية، وما أعقب ذلك من قمع ودمع، ودماء وأشلاء، وإيذاء وابتلاء.

  كل ذلك يجهله بعض المناضلين بالمراسلة وعن بعد، لأنهم لم يكتووا بلهيب الثورة، ولم يصلوا بنارها، فجهلوا معناها ومحتواها.

  فتحية إلى صناع ديسمبر، ونوفمبر، وإلى كل الذين قضوا، بعيداً عن الأضواء، في دهاليز المدن والقرى، وزنزانات السجون والعراء.

والمجد والخلود للمجهولين من الجنود والشهداء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى