تأملات باديسية، في الذكرى النوفمبرية
ليت شهداء الوطن، يعودون –ولو للحظات- من عالم الخلود، إلى عالم الآباء والجدود، ليشهدوا حصاد زرعهم، ويقدروا آثار ألبان ضرعهم!
وليت علماء الوطن، يُبعثون من مرقدهم، الوثير إلى واقعنا العسير، فيدركوا آثار جهدهم في الجماهير، وأبعاد معاناتها في معركة المسير.
فاليوم، وطبول النصر تقرع، وأعلام ذكرى الجهاد ترفع، وشعارات مقدسة تتعالى وتبدع، ينبغي أن تتمكن دقات ونبضات القلوب من أن تُعلَى وتُسمع.
إن الذين فتحوا أعينهم واستهلوا صارخين، مع تكبيرات الجهاد في أول نوفمبر، إن هؤلاء، قد بلغوا اليوم من الكبر عتيا، وظهرت التجاعيد على محيا الذي كان فتيا وطريا.
فماذا تحقق لهم، ولغيرهم من وعود نوفمبر؟ وماذا تحقق للشهداء والعلماء والأصفياء، والصلحاء، من قيم السيادة، والإباء؟.
إن العلماء الذين أعدوا واستعدوا لجهاد نوفمبر قد اقترن اسم باديسهم بنوفمبر، وإن جمعية العلماء بشهادة الواقع المتين، وكل المؤرخين المنصفين، قد كانوا من صناع الجهاد ببث الوعي، وبذل السعي، ولا ينكر هذا إلا جاحد ذو بغي.
ودع عنك طنين الذباب، ونعيق الغراب، وإفك كل مفتر كذاب، فما ذاك إلا مناور نصاب، ومخادع للألباب، شأنه شأن السراب.
فما هو موقع جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، من حصاد الجهاد في مسيرة الجزائر اليوم، وهي التي قدمت للجزائر ولا تزال، الدعم المادي والمعنوي، فحفظت لوطننا وجهه الحضاري الاعتباري، وقدمت للدولة الجزائرية المستقلة، المعاهد والمدارس التي هي للنشء مغارس، وللعقول نِعْمَ الحارس؟
وجمعية العلماء اليوم، هي التي تمد الوطن بخطابها، وإعلامها، وتعليمها، وتوجيهها، من أجل الحفاظ على أصالته، ووحدته، واستقراره.
ففي ساعة العسرة، وقفت الجمعية ضد الدعوة إلى المرحلة الانتقالية الملغومة، وتصدت لدعاة المقاطعة الانتخابية المشؤومة، فصححت الأفهام، وأزالت الألغام، وعملت على بث التآخي والانسجام.
غير أن جمعية العلماء اليوم، وبعد ستين سنة من استعادة السيادة، وفي ظل إحياء نوفمبر الجهاد والشهادة، ها هي أم الجمعيات تعاني من شتى الأزمات.
فلا تزال الجمعية، تعيش في جزائر العلماء والشهداء، بلا عنوان، فلا تملك المقر اللائق بمكانتها، وهي التي قدمت للجزائر العشرات من المقرات الوقفية، ولم تجد كل نداءات الاستغاثة، وهبات الإغاثة.
بل إن جمعية العلماء حرمت من أبسط التفاتة، في الحوارات ومشاورات لم الشمل، وهي التي تتربع على معظم ولايات الوطن بشُعَبِها، ومدارسها ونواديها، وإغاثتها؛ ولا نجد تعليلا لهذا الإقصاء.
وكنا نأمل أن تلقى الجمعية التفاتة طيبة في عيدي الإمام والمعلم، ولا ينكر قيمة أئمة الجمعية، ومعلميها إلا من أبى أن يدرك ذلك.
وها هي مناسبة يوم الصحافة، الذي أَحْيَتْهُ الجزائر، منذ أيام، وكرم فيه الصحفيون، ويا للطامة الكبرى- تجاهل القائمون على الأمر، جريدة البصائر، وهي أقدم جريدة وطنية، والتي ظلت تصدر من عام 1937، إلى اليوم، وشهد بعراقة البصائر المؤرخون المنصفون وأولهم الرئيس تبون.
فما ذنب البصائر أن تقصى، وهي التي كانت ولا تزال الوعاء الإعلامي الحضاري، الذي يقف شاهدا على عروبة، وإسلام الجزائر؟
إننا والله- لفي حيرة من أمرنا، فما سر هذه العزلة التي تعانيها، الجمعية والبصائر، وآخرها، حرمان البصائر من الإشهار، وهذا معناه تجفيف المنابع ودفع البصائر إلى التوقف عن الصدور، وكيف نعلل، لو تحقق -لا قدر الله-، هذا التوقف، أمام قرائنا داخل الوطن وخارجه الذين يتابعون بإعجاب صدور جريدة هي لسان حال جمعية العلماء المسلمين الجزائريين؟
نحن نبعث بهذه الزفرات، في عيد ذكرى إحياء نوفمبر، وهو عيد الإحياء والأحياء، عسى أن تجد زفراتنا، آذانا صاغية، تُطَمْئِنُ أرواح علمائنا وشهدائنا، فتعيد إليهم السكينة والطمأنينة، كما تستأصل الأتراح، وتضمد الجراح، وترسم على القلوب والشفاه البسمة والأفراح.
فيا نوفمبر!
يا سيد الشهور، ويا عيد كل العصور والدهور! تجدد فينا، وابعث الأمل وحب العمل في نفوس القائمين على نوفمبر، حتى يتداركوا الخلل، ويستأصلوا العلل، وليقَسْ ما لم يُقل.. ولله در شاعر الجزائر محمد الأخضر السائحي في قوله:
وقام ابن باديس يُذكي الشعور ويبني المشاعر في المسجد
لك الله، ما لامست روحه فؤادا شقيا، ولم يسعد
فكم قد تغنى بهذا الصباح وهام به، وهو لم يولد
وكم بَذَر الحب في أرضنا ومات على الشوك لم يحصد
بقلم .. الدكتور عبد الرزاق قسوم