بعد ليبيا واليمن الدور على من؟
أ.د. عبد الرزاق قسوم - رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين

ماذا دهى وطننا العربي الكبير؟ أية عين سامة، وأية يد لامة مسته، فتحول فجأة، وبين عشية وضحاها، من وطن فولاذي الإرادة، يعشق الحرية، والوحدة والسيادة، ويتوق إلى الريادة والعبادة وحسن القيادة، إلى شعوب وقبائل تتهددها الإبادة، ويسودها الغباء والبلادة، وينال منها من هب ودب من الطوائف التي تترصد خيراتها، للإفادة وزيادة.
كان وطننا العربي، رمزا للإباء والفداء، ديدنه الصفاء والنماء، ويتغنى أطفاله بأناشيد الأمل والوفاء:
بلاد العرب أوطاني من الشام لبغدان
ومن نجد إلى يمن إلى مصر، فتطوان
فلا حد يباعدنا ولا دين يفرقنا
لسان الضاد يجمعنا بغسان وعدنان
لنا مدنية سلفت سنحييها وإن بعدت
ولو في وجهنا وقفت دهاة الإنس والجان
كان ذلك شعار الأجداد الماهدين الأسياد، ولكن خلف من بعدهم خلف من الأحفاد، عاشوا التردي، وعانوا التحدي، فهم يبعثون بآهات اليأس والتصدي، كما فعل نزار قباني:
أنا يا صديقة متعب بعروبتي فهل العروبة لعنة عقاب
وكما رسم بالكلمات مأساة دمشق:
يا شام، أين هما عينا معاوية وأين من زاحموا بالمنكب الشهبا؟
فلا خيول بني حمدان راقصة زهوا، ولا المتنبي، مالئٌ حلبا
وقبر خالد في حمص نلامسه فيرجف القبر، من زواره غضبا
يا رُبّ حيٍّ، رخام القبر مسكنه ورُبّ مَيتٍ، على أقدامه انتصبا
يا ابن الوليد، ألا سيف تؤجره؟ فكل أسيافنا قد أصبحت خشبا
تلك كانت -إذن- بداية السقوط، كما رسمها أكثر من كاتب، وكما صورها أكثر من شاعر.
تسلل الأعداء إلى كل قطر، فنشروا فيه المحن، والأوبئة، والفتن، فصار كل جزء يباع بلا ثمن.
استفردوا بالعراق وهي عاصمة الرشيد، فأحدثوا فيها الفرقة، والدمار والتشريد، واستوطنها كل شيطان مريد.
وعرجوا على الشام، فأوقعوا فيها الحرب القذرة بين الأشقاء، فهدموا البناء، وسفكوا الدماء، واستحلوا شرف النساء، وشردوا الملايين من الشرفاء، ليموت أبناء تحت العراء، أو يكابدون الذل والشقاء.
وعندما هالهم أمر الكنانة، أحدثوا كل أنواع التنكيل والتعذيب والإهانة، فدجنوا فيها رموز السيادة، وأنزلوا في شرفائها أنواع الإقصاء والإبادة.. لطالما أسررنا وأعلنا، وطالبنا وأبنا، أن مصر تتسع للجميع، للمسيحي وللملحد والمؤمن، وأن الجامع المشترك الأعظم بين جميع المصريين هو العروبة في أقدس معانيها، والوطنية في أعمق مبانيها، ولكن أين مصر من قوله تعالى: ﴿ ادْخُلُوا مِصْرَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ﴾[سورة يوسف، الآية 99].
وكانت الحجاز مهبط الوحي، ورمز السعي، وجامعة القيم والوعي، فزينوا لها سراب الحداثة، مع ما قد ينجر عن ذلك من فاحشة ودياثة، وما قد يمس بطهر الإرث ونبل الوراثة.
فهل من الحداثة والانفتاح على حقوق الإنسان، الزج بالعلماء والأحرار، ووضعهم تحت رحمة السجان؟
إن أهل الحل والعقد كانوا، دوما، هم الطاقة الإنسانية الحية، التي تفجر ينابيع الخير، وتحث الراعي على عدم المساس بحق الغير، وعندما غاب هؤلاء عن الميدان، أطلق العنان لكل إنسان، فصار هذا الشأن الذي يغضب الديان.
إن للحجاز موقعا خاصا في قلوب العامة والخاصة، ومن أولى خصائصه، أنه واحة سلام ومجتمع أخوة ووئام، لا يمكن لأي حيِّ فيه أن يضام.
فلماذا تقحم بلاد الحرمين في الحرب العبثية في اليمن؟ وهل بلغ اليمنيون، من الخطورة بسيوفهم، إلى حد تهديد الحجاز أو أي بلد آخر؟ كفى اليمنيين شقاء أن يجدوا لقمة العيش، والأسمال التي يسترون بها الجسم من الخيش، ولكنهم يُقتلون بالصواريخ وأسلحة الجيش، فأيّ بطش أعظم من هذا؟
وها هو السودان، الذي يحتوي على أطيب إنسان، ها هو الآخر يتعرض إلى أبشع مؤامرة لقلب الميزان، وإحداث الفوضى، والشنآن، وفتش عن الأيدي الصهيونية التي تكمن خلف كل هذه المكائد والمؤامرات، وتشيع بين أبناء العروبة كل هذه الانقلابات، والانقسامات.
ولكم أن تنظروا إلى ليبيا، التي يتنازعها أخوة متشاكسون، يستعينون بالمرتزقة من كل جانب، فيزرعون العقارب بين الأقارب، وما أولئك بالليبيين المخلصين.
هذه، يا قارئي العزيز، الصورة القائمة بخارطة الوطن العربي الأكبر، وقد تمزقت أجزاؤه، وتلبدت أجواؤه، وتكاثرت أعباؤه، فمتى تعالج آفاته، ويشخص داؤه؟
إن كل هذا الإرباك الذي حل بوطننا العربي، إنما تم تحت ذريعة التطبيع، والذي أصبح عنوانا للطاعة والتمييع، والسؤال الذي يحير كل عربي عاقل، هو ماذا في ضوء هذه المأساوية التي لم يسلم منها إلا القليل؟ سيكون الدور على من في الحلقة الجديدة من المؤامرة؟
إن الحاجة ماسة إلى مزيد من الوعي، ومن السعي، ومن التحصين، والتمكين للوطنيين المخلصين، الذين بدونهم لن يبقى لنا دنيا ولا دين.
فالعدو الصهيوني الشرس، قد استطاع بخبثه، وكيده، ولغفلة فينا، استطاع أن يزعزع كل الكيانات، وأن يمد مكائده إلى كل المؤسسات، فعلى الحكام والمحكومين التنبه لما هو آت،
﴿ فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ..﴾[سورة غافر، الآية 44].