الـمصالحـــة أو الطــوفـان …
أ.د. عبد الرزاق قسوم - رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين
كتب الله في سجل أقدار البلاد والعباد أن أحرار فلسطين، الذين ستضيق بهم بلادهم، التي حوّلها العدو الصهيوني إلى أرض اضطهاد واستبداد، وإلى أرض ميعاد، إن هؤلاء الأحرار ستحتضنهم الجزائر، أرض الجهاد والاستشهاد.
تفتح الجزائر شِغَافَ القلوب، وأقفال الخزائن والجيوب، لتعبّد أمام الفلسطينيين الوعر من الدروب، وتنير لهم منهجية التحرير، وأفضل ما في الجهاد من أسلوب.
فعندما يستنشق الفلسطينيون الأحرار عبق المجاهدين الجزائريين الثوار، سيدركون حجم الأضرار التي تلحقهم من الفرقة، والشتات وذل الإنكسار.
فيا أبناء شعبنا الفلسطيني الأبي، لقد قدمتم أروع البطولات في المقاومة، وصمدتم أمام أساليب المكر، والمراوغة والمساومة، وها أنتم تدعون اليوم، في جزائر الصمود والتحدي، إلى توحيد الصفوف، ووضع حد لما أصاب بعضكم من الضعف والتردي.
أيعقل، يا أحفاد عرفات، وأحمد ياسين، أن يلقاكم عدوكم، بجيش واحد، وصف واحد، وحقد واحد، للقضاء عليكم، وتلقونه شيعا، وأحزابا، وطرائق قِددا؟
فإن لم يوحدكم الوطن وهو رمز وحدتكم، والقدس وهو عنوان قبلتكم، وسجون الاحتلال وهي أقبية خيرة أبنائكم وبناتكم، فليوحدكم القمع الصهيوني الذي لا يفرق بين أحد منكم.
إن عشرات العقود من السنين التي جثم فيها العدو الصهيوني على خيرات وطنكم فشتت خياركم، وقتل أحراركم، وسجن أبكاركم، ودجن أنصاركم، إن هذه العشرات من العقود كفيلة بأن تلهمكم الدروس، وتوقظ الضمائر في النفوس، وتحدد لكم طرق الخلاص، وعدم النكوص.
لقد اتضح لكل فلسطيني وفلسطينية، أن عدوكم قد بلغ من العتوّ والصلف، بحيث لا يفهم من اللغات إلا لغة المقاومة، فلقنوه المزيد من دروس المقاومة، بعيدا عن ألاعيب الساسة المطبعين، الذين لا يزالون يؤمنون بإمكانية المفاوضات العبثية، أو المساومة.
طريق واحد للتحرير، وهو النفير، ووحدة المسير، واستقلالية التنظيم، وتقرير المصير.
إنكم يا أشقاءنا، أحرار فلسطين ستجدون في الجزائر، شعبا احتضن قضيتكم، واكتوى بنار تضحيتكم، وهو معبؤ لنصرتكم، وشد أزركم، فبادلوه إيمانا بإيمان، بإعادة وحدة صفوف فصائلكم، بمزيد من العزم، والحزم، وعدم الإذعان، لأي حاكم أو سلطان، إلا الذي لا يناصر سلطة العدوان، ويرفض التطبيع مع العدو تحت أي عنوان.
فأنتم طلائع الوجود العربي الصحيح تمثلون المقدمة السليمة، لكل عمل عربي قادم، وأنتم الصخرة التي ستتحطم عليها كل مؤامرات مرضى القلوب، الحاضر منهم والقادم.
لقد أثبتم للعالم أجمع، أن عدوكم نمر من ورق، وما مقاومة وصمود غزة الباسلة إلا عينة متميزة من ذلك. كما أن ما يقدمه أبناء وبنات فلسطين، داخل السجن وخارجه من روائع البطولات، والاستمرار في بذل التضحيات، هو درس آخر يقدم للعدو وللصديق، من أن القضية الفلسطينية حية، وقوية، وثابتة بإيمان شعبها، فليرتفع أبناء الفصائل الفلسطينية، على اختلاف تنظيماتهم، إلى هذا المستوى العالي من تضحيات المقاومين.
ولكم علينا نحن الجزائريين، أن نوفر لكم الزاد، والعتاد، والإمداد، فاضمنوا أنتم لنا وحدة صفكم، ونبل كلمتكم، وتنسيق مقاومتكم.
محكوم عليكم، يا قادة الفصائل الفلسطينية، باسم الذين استشهدوا، والذين افتقدوا باسم المعذبين في السجون، والمرابطين في القدس، محكوم عليكم باسم هؤلاء الشرفاء جميعا، أن توحدوا الصف، وتتجمعوا على نبل الهدف، وأن يبتعدوا، عن مكائد ومناورات العدو، وما يتبعها من الهف واللف.
إن اجتماع الفصائل الفلسطينية في الجزائر، حدث بالغ الأهمية، ينبغي أن تكون نتائجه في مستوى الآمال المعلقة عليه، ولا يجوز بأية حال من الأحوال، أن يخيب هذا الاجتماع الرجاء.
يعتقد أن هذا اللقاء الفلسطيني، وهو الحلقة المضيئة في ليل العرب المظلم، سيرسم الطريق أمام القمة العربية القادمة في الجزائر، فبقدر نجاح اللقاء الفلسطيني يمكن للقمة العربية، على ما يحيط بها من سلبيات، أن يقتدي حكامها بالرمز الفلسطيني، فيعيدوا هم أيضا وحدة الصف فيتصالحوا مع ذاتهم الحضارية والوطنية فيحصنوا هذه الذات، بالبعد الوطني المطلوب، والتصالح الشعبي المرغوب، وفتح أبواب الحريات، أمام كل مواطن، واع، ومسؤول، ومحبوب.
على أن الجامع المشترك الأعظم اليوم للعرب، ينبغي أن يتم على أساس الموقف من القضية الفلسطينية، هذه القضية المقدسة التي طال أمدها، بسبب الخذلان، والخلافات تحت طائل الأهواء والطغيان.
إن المصالحة –إذن- سواء على الصعيد العربي أو الصعيد الفلسطيني، هي اليوم البلسم الشافي مما نعانيه، ولن تتحقق هذه المصالحة الشاملة، إلا بشحذ الهمم، وتوحيد العزائم ونبل الهمم، وإثبات الوجود على المستوى الدولي بين الأمم.
فإما المصالحة التي ستعيد بعثنا في رحلة جديدة نحو الحياة الأفضل، فنحرر أرضنا، ونستعيد قدسنا، وإلا فالطوفان هو الذي ينتظرنا، وذلك هو الخسران المبين.