تمثل الأيام، والشهور، والسنون، محطات تاريخية هامة في فلسفة الزمن، سواء في حياة الأفراد، أو في حياة الشعوب.
فالأعياد، وذكرى الميلاد، كلها فواصل زمنية، تطبع الحياة الإنسانية، بأحداث تاريخية معينة، هي التي تغدو محطات للتأريخ بها، وتسجيل الانطلاق منها، واتخاذها وقائع وأحداثا، ترتبط حياة الأفراد والمجتمعات بها.
وذلك هو شأن الجزائر مع فلسفة الزمن. فإذا ذكر الخامس من يوليو، يذكر معه تاريخ السقوط وبداية الكساد، قبل أن يتحول هذا التاريخ نفسه، بعد العناء والبلاء إلى تاريخ الميلاد والإيجاد، والامتداد.
وإذا ذكر الثامن من مايو، يذكر معه تاريخ التجربة مع الثورة الدموية، والحراك التحريري المقاوم.
وعندما يذكر الفاتح من نوفمبر، فذلك يعني في تاريخنا الوطني «يوم الأحياء والإحياء» الذي رسم لكل الشعوب طريق التحرر والخلاص.
وإن شقيق نوفمبر، هو ديسمبر، الذي كان بداية الاستفتاء الشعبي على الاستقلال الوطني، وتفويض ممثلي الثورة الجزائرية في العالم، على أنهم يمثلون بحق الشعب الجزائري في كل تسوية وفي كل تفاوض.
فهذه الأحداث والوقائع، مجتمعة أو متفرقة، كانت هي المنبه للضمائر، والموقظ للشعور والشعائر، وعندما يظلنا الحادي عشر من ديسمبر، يستشعر منه الذين واكبوه وساهموا في صنعه، حقبة زمنية فاصلة هي التي مثلت التحول الكبير من مرحلة الجزر إلى مرحلة المد، ومن مرحلة السرية إلى مرحلة العلن.
جاءت مظاهرات الحادي عشر من ديسمبر العظيمة، كرد فعل إيجابي، على الكثير من التحديات السلبية.
فقد بلغ القمع الأعمى، والعنف الأنكى، بلغ مداه، وتجاوز البطش في ذلك الوقت أقصاه.
جاءت مظاهرات 11 ديسمبر 1960 لترد على استفزازات المستوطنين الفرنسيين، الذين لم تكن تحكمهم مبادئ، ولا قوانين، فقد استغلوا الضباط المفسدين، لصنع الانقلاب على الحاكمين، والضغط عليهم ليبقوا الجزائريين فرنسيين.
كما أن هذه المظاهرات الشعبية الصارمة جاءت لتحكم على موجة القمع الأعمى التي مارسها دوغول، من الأسلاك الكهربائية الشائكة، وخطوط موريس وشال، جاءت لتحكم على كل هذه الممارسات التي لم يشهد الجزائريون أفضع منها، بالفشل الذريع، فقد كان المناضل الجزائري، آنذاك، ينام بحذائه استعدادا، للقيام بأية عملية، أثناء مداهمة العدو للمنازل.
إن الذين واكبوا الثورة، وتمرسوا بهولها ليذكرون اليوم أهوالها، وما تركته في شعورهم من جراح وأتراح، فهي الأوسمة التي تظل معلقة على جبينهم.
إنني أذكر في هذا اليوم، رجالا ونساء كنا نعدهم من الأخيار، نذكر سي أحمد زيغم أطال الله حياته، وسي أحمد مادوش رحمه الله، وسي أرزقي عكاش، والشهيد سي العربي سعادة، وسي العربي زموري، وغيرهم ممن لا يزالون أحياء من مجاهدي ومجاهدات حي بئر مراد رايس، هذا الذي ناضلت فيه، وأعرف عائلاته لقبا لقبا.
بدأت مظاهرات ديسمبر، بعفوية، وبشعارات عادية، ولكن المناضلين تدخلوا، وحولوا نهر المجرى الشعبي إلى المصب الحقيقي، فغيّرنا الشعارات، وأعدنا كتابة اللافتات، وعمقنا معاني المطالب، والهتافات.
ويمكن القول، إذن، أن الربيع الحقيقي والصحيح، إنما كان من هذه المظاهرات الديسمبرية الشعبية، التي رسمت لشعبنا، ولباقي الشعوب المضطهدة درب التحرير الصحيح، والمنطق الثوري الفصيح، ويخالجنا سؤال منطقي هام: هل إن إحياء هذه الانتفاضات الشعبية التي كانت المقدمات السليمة للنتائج الصحيحة، يكمن في مجرد الحديث عنها، وتنتهي بمجرد انقضاء يومها أو أيامها؟
لا نعتقد ذلك، بل إن هذه الانتفاضات تقدم للعقلاء منا، والوطنيين الحقيقيين من أبناء شعبنا، دروسا بليغة، ومعاني بديعة وأهمها:
1- أن نذكر للأجيال، مدى مرارة الصراع الذي عاشه جيل نوفمبر في اتخاذ كل أساليب المقاومة المادية والمعنوية لاستئصال الجرثومة الاستعمارية.
2- آن الأوان –وقد حصحص الحق- أن نميز بين الغث والسمين، وبين المناضلين الحقيقيين و«الطايوانيين»، على حد قول الشاعر:
إذا اشتبكت دموع في خدود
تبين من بكى ممن تباكى
3- مدى الوفاء للذين صنعوا ملاحم الثورة الجزائرية في صمت، دون استغلالها للكسب والثراء، ودون المن على الوطن بالنضال والفداء.
فيا أيها المدثرون بالشعارات الجوفاء، وبالمصطلحات الخرقاء، قوموا، واصحوا من غفوتكم، ومن غفلتكم.
كفى متاجرة بالشعارات، واللافتات، إن ذا يوم البيانات، والحقائق، وإثبات الانجازات، فقد انتهى زمن الأقوال وحان زمن البراهين والأعمال، وكما يقول الشاعر أحمد مطر:
أسدَلَ الليل وأغْفى
ودعاني أن أُصحِّيَه
إذا الصبح صحا
عندما أيقظته
قام بإطفاء الضُحَى
هذه –يا إخوتي- نفحات ديسمبرية في تاريخ الوطن والوطنية، كما عاشها، وكما ساهم في صنعها فرسان الجهاد والجهادية، مصداقا لقوله تعالى: ﴿..فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ﴾
[سورة الرعد، الآية 17].