مصرف السلام الجزائر .. خدمات بنكية أصيلة
كلمة الرئيس
متداول

التضليل والتعتيم وتصحيح المفاهيم

بقلم أ.د عبد الرزاق قسوم

عندما تفقد أمة ما منهجية تحقيقها، وتتيه وسط بيداء، ودهاليز طريقها، أيقن يومها بأنها، لم تعد تفرق بين عدوها وشقيقها، وبين مناوئها وصديقها.

وعندما تُنزع مقاليد القيادة من الحكماء والعلماء، وذوي السيادة، فذلك معناه السقوط في بؤر الإبادة، ونهاية حرية الإرادة والتنكر لقيم التوحيد والعبادة.

فقد عزّت أمم قبلنا، عندما أسلست قيادتها، للنخبة المنيرة، وأدارت ظهرها لأفكار الطغمة الخطيرة، التي تبني حياتها على عصبية الولاء للقبيلة والعشيرة.

يحدث هذا، عندما تمتحن الشعوب في إرادتها، وصلابتها، ومعتقداتها، ذلك أن قوام البناء، ودوام مشعل الإعلاء، لا يكون إلا بالحفاظ على سؤدد الأبرياء، والاعتزاز بما ورّثوه لخلَفِهم من معاني المجد والإباء.

وأمتنا العربية الإسلامية على العموم، والجزائرية منها على الخصوص، توشك أن تتردى في هذا البحر العقيم، بحر النسيان والتعتيم.

هل يعقل أن تتنكر جزائر المجاهدين والشهداء، والمصلحين العلماء، تتنكر لمن بنوا مجدها، وخلّدوا ذكرها، وأعلوا في الشامخات فكرها؟

هل من الجهاد القويم، التنكر لجهاد ابن باديس العظيم، وهو واضع اللبنة والأساس، ورافع شعار التحرر والتحرير بين الناس، والذائد عن هذا الوطن بالقلم والقرطاس؟

ويسألونك عن جمعية العلماء ومتى التحقت بالثورة والجهاد؟ وماذا قدمت في هذا المجال للبلاد والعباد؟ أليس هذا هو الإفلاس الفكري، والتدليس التاريخي، والتزييف الوطني بمختلف ألوانه؟

فلو أنصفوا لقالوا أن الثورة الجزائرية، هي التي التحقت بفكر ابن باديس، ومبادئ جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، عندما تبنّى مفجّروها كلمة السر الإسلامية، واستلهموا من مبادئها الأفكار العقدية، ورفعوا شعار الجهاد، لمنازلة الدولة الصليبية، تحت شعار الله أكبر.

ليس من المبالغة –إذن- القول بأن الثورة كانت نوفمبرية باديسية، وأين المغالطة في كل هذا؟

أليس ابن باديس وصحبه هم واضعو دستور الثورة الجزائرية، عندما صرخوا في عتمة الظلمة الاستعمارية، بمبادئ.

شعب الجزائر مسلم، وإلى العروبة ينتسب

من قال حاد عن أصله

أو قال مات فقد كذب

أو رام إدماجا له

رام المحال من الطلب؟

هل هناك أوضح، أو أقوى، من مثل هذا الدستور الذي جمع بين متطلبات الجهاد  وتحقيق الهدف؟

فقد توجه ابن باديس بالنداء الملح إلى النشء الذي هو أمل الأمة ورجاؤها، والذي به سوف يتحقق الصباح المرتقب الذي هو الحرية، هذا الصباح الذي سيُطِل على من ضاقوا بظلمة الاستعمار وظلمه.

كما أن هذا الدستور، قد حدد معالم ووسائل الخلاص من هذا العدو الاستئصالي الفرنسي عندما صاح في النشء حامِلِ الأمل، أن أهزز نفوس الجامدين، الذين يهدهدون أعلام الشعب وتخديرهم بالجمود على أفكار عتيقة بالية.

وأن أقلع جذور الخائنين الذين هم سبب كل ما أصاب الأمة من بلاء وعطب.

وأن أذق نفوس الظالمين الغاصبين بالمقاومة والجهاد، أذقهم السم الممزوج بالرهب.

وقبل هذا أشهد ابن باديس السماء، والوجود بأننا للحمى سنكون الجنود، فنزيح البلاء، ونفك القيود، ونذيق الردى كل عات كنود.

وعد ابن باديس في إشهاده للسماء والوجود بأن جيلنا سيرى خافقات البنود، وأن نجمنا سيُرى للعلا في صعود.

وأننا هكذا، هكذا سنعود.

ألم يجسد، مفجرو نوفمبر، هذه المبادئ التي رفعها ابن باديس؟ ألم يحققوا حلمه في رفع البنود، وحشد الجنود، وإعلاء العَلم في صعود؟

ثم ألم يكن مصطفى بن بولعيد، وهو أحد مفجري ثورة نوفمبر، مسؤول شعبة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في الأوراس؟

ألم يكن العربي بن مهيدي أحد تلامذة مدارس جمعية العلماء ببسكرة، رضع حليب مبادئها، وتسلح بقيم غاياتها ومقاصدها، عندما فـجّر ثورة نوفمبر؟

ألم يكن العقيد عميروش أحد قادة الجهاد ورمز الاستشهاد، ألم يكن هو مسؤولا بجمعية العلماء في بعض ضواحي باريس؟

ألا يحق للمؤرخين الصادقين القول، بأن الثورة الجزائرية قد التحقت بمبادئ جمعية العلماء عندما اندلعت؟

وليت قومي يعلمون ! وليتهم يقرأون ويفهمون؟

ففي شهر أكتوبر 1954، أدلى الإمام محمد البشير الإبراهيمي، وهو خليفة الإمام ابن باديس، أدلى بحديث لمجلة الإذاعة المصرية، ومما قاله قبل اندلاع الثورة: «إننا وصلنا إلى مرحلة اليأس من الاستعمار، ولم يبق لنا إلا أن نموت بشرف في يوم لم يعد بعيدا..»

والشيخ محمد البشير الإبراهيمي، هو من أرسل في جانفي 1955، رسالة إلى الملك سعود، يطلب منه فيها أن يعيّن الأستاذ عزام باشا أمين عام جامعة الدول العربية آنذاك، والزعيم الفلسطيني أحمد الشقيري، للدفاع عن القضية الجزائرية في الأمم المتحدة.

هذا إلى جانب الخطاب الذي ألقاه الشيخ الإبراهيمي في 2 من شهر نوفمبر من صوت العرب بالقاهرة، يحيي فيه الثائرين الأبطال، ويدعوهم إلى النصر أو الاستشهاد، دفاعا عن الجزائر.

والأمثلة كثيرة على جهاد واستشهاد طلبة وأساتذة جمعية العلماء.

أفبعد كل هذا، يمكن لقائل أن ينفي عن نوفمبر صفة الباديسية، والحال أن وصف نوفمبر باديسي مجد لنوفمبر وليس انتقاصا منه.

وعلى حد تعبير الشاعر أحمد مطر:

تنتهي الحرب لدينا دائما

إذ تبتدي

بفقاقيع من الأوهام ترغو

فوق حلق المنشد

إن ذلك هو قمة التضليل والتعتيم الذي يتطلب تصحيح المفاهيم.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى