مصرف السلام الجزائر .. خدمات بنكية أصيلة
كلمة الرئيس
متداول

مـــاذا أكــتــب؟ ولـمـــن؟

بقلم أ.د عبد الرزاق قسوم

تساورني كلما هممت بالكتابة، وأخذت القلم لتسجيل افتتاحية البصائر، تساورني شكوك، وتستبد بي هواجس، وتطوقني أسئلة، أهمها: ماذا سأكتب؟

فالأحداث اليومية والأسبوعية تتراقص أمام العين، وكلّها تغري بالكتابة عنها، والتعليق عليها، وفيها السياسي، والديني، والاجتماعي، والثقافي، والاقتصادي، ومنها المحلي والدولي.

فإذا انتهيت من الإجابة عن السؤال الأول ذي الأسئلة الفرعية، يواجهني سؤال أهم، وهو «لمن أكتب»؟ وينتج عن هذا السؤال أسئلة أخرى أكثر تعقيدا، وهي لمن أتوجه بما سأكتب؟ فأية فئة من القراء أخاطب؟ وما هو الأسلوب الأنسب لمخاطبتها؟ وكيف أتفادى ردود الفعل الناجمة عن سوء فهم ما أكتب؟

وعندما أتذكر أن ما أكتبه لا يلزمني شخصيا، بقدر ما يلزم البصائر، التي هي لسان حال جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، والبصائر كما يذكر الجميع إرث ثقافي، ورثناه أبا عن جد، فهي مدرسة للفكر، ومنبر لتسجيل جميل الذكر.

فقد تعلمنا عن أساطينها الماهدين، الشجاعة في الجهر بكلمة الحق، والأمانة في أداء الرسالة، والصدع بالنصح لمن ولاه الله أمر المسلمين، من أئمتهم، ولخاصة المسلمين.

من هنا تبدأ الصعوبة في تناول المواضيع الافتتاحية للبصائر، وتبدأ الصعوبة الأولى من اختيار العنوان، فالبعض لا يكلفون أنفسهم عناء القراءة المتأنية والمتأملة، لفهم ما بين السطور، فهم يحكمون على المقال من عنوانه، وتلك هي الطامة الكبرى.

وهناك من يعيبون على البصائر، خوضها في السياسة، ويتساءلون ما لجمعية العلماء والسياسة، فلسان السياسة أعجمي، ولسان جمعية العلماء عربي مبين؟

وهناك الذباب الإلكتروني، وهم فئة من الناس لا يكادون يفقهون حديثا، فهم يقحمون أنفسهم فيما لا يعنيهم، فيهرفون بما لا يعرفون، ويلجأون إلى تعاليق بليدة، باردة، تنم إما عن سذاجة في الفكر، أو عن خبث في القناعة، أو عن حسد في التعامل، وكل هدفها النيل من المقال أو من صاحب المقال.

فإذا وجدت من يتطاول على من هو أكبر منه سنا، أو أكثر منه علما، أو أعلى منه قيمة، فاعلم أن هذا يعاني أزمة ذبذبة في أصالة الانتماء، ذلك أن الأصيل يتميز بالطيبة في المعاملة، وبحسن القول وحتى المجاملة، ولذلك تفهم من هذا الصنف من الذباب، أنه يطمح إلى أن يجرك إلى العناية به، والتعليق على تعليقه، ومن وجهة نظرنا فإن الرد الوحيد الذي ينبغي أن يجاب به هو قول شاعر في حق أمثاله:

ليس له في لغة من اللغات وصف       ملائم لشكله، ووصفه سوى «أتفو»

أسوق هذا كله لأبين مدى المعاناة التي يعانيها الكاتب الملتزم برسالة جليلة ونبيلة كرسالة البصائر.

فالالتزام، كما يعرفه الفيلسوف الوجودي جان بول سارتر، هو أن تملك الحرية في أن تقول نعم، وفي أن تقول لا، وهو عكس الالتزام الذي يجبرك على أن تصطف في طابور واحد، وتسير على عزف نغمة واحدة، حتى ولو كانت لا تستجيب للقاعدة الموسيقية الأصيلة.

وقد علّمنا أسلافنا، أن حرية الفكر والشجاعة في إبداء الرأي، قاعدة إسلامية نبيلة، ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ  …﴾ [سورة البقرة، الآية 256]، ﴿..وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ﴾[سورة سبإ، الآية 24]، ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾

[سورة الكافرون، الآية 6].

وحذرنا إمامنا محمد البشير الإبراهيمي من مغبة بيع القلم، أو رهن الذمة، أو التضحية بالشرف، فقال: «إن بيع المثقف لقلمه، كبيع الجندي لسلاحه».

على أننا، ونحن نؤمن بحرية الفكر في الكتابة، نؤمن أيضا بحرية الرأي في القراءة، وفي التأويل، وفي النقد، وشتان ما بين من ينتقد انطلاقا من النص، فيناقشك في الفكرة، ويبطل الفكرة بالحجة، والدليل، والبرهان، وبين من يعيب عليك مبدأ الحرية، وأساس الكتابة، وقاعدة الحكم، وهذا ما نصطدم به في بعض المواقف، إضافة إلى النعت بالأوصاف البذيئة، لمجرد أنك تختلف معه في الانتماء، أو في القناعة.. وتالله إن هذا لهو الإرهاب الفكري المقيت، خصوصا ونحن جميعا نرفض الإرهاب بجميع أنواعه، وأيا كانت مصادره وألوانه.

فيا بني قومي، إن مما يعانيه الخطاب الإعلامي اليوم، هو الحجر على الناس في التعبير عن قناعاتهم، وتصنيف كل من يخالفهم في خانة سقط المتاع، وتلك هي الجائحة التي أصابت بعض العقول، والوباء الذي استبد ببعض الألسنة، والأقلام.

إن ما نؤكد عليه في هذا المستوى من الحوار، الذي نريده أن يكون فصيحا وصريحا، وتريد البصائر أن تكون رائدة فيه، هو أن نمنح حق التعبير للمؤالف والمخالف، فنشيد بالمؤالف إذا كان مقصده يصب في مقصد المصلحة العامة، ونحاور المخالف، إذا بدا لنا أنه قد يثير فتنة، أو يحدث محنة، ولكن مع الحفاظ على أدب الخلاف، وحرية الرأي، وعدم الإسفاف أو السقوط في الفاحش من القول.

أما أن يكون المنطلق، هو التجريم، والمنع، وتكميم أفواه الناس، فهذا ما تأباه الوطنية الصحيحة، والعقيدة الصريحة، واللغة الإعلامية الفصيحة.

ذلك أنه يحق لكل مواطن، أن يتناول كبريات القضايا المحلية والعالمية مهما تعقدت أبعادها، ومعالجة الأمر السياسي بالكلمة الطيبة، والمجادلة بالتي هي أحسن، فباقة الورد، لا تكتسب قيمتها إلا من تنوع الألوان، والمعزوفة الموسيقية لا تستمد طيب نغمها إلا من تناسق آلات العزف وأصابع العازفين، كي يستفيد الناظر والسامع من عبق الورد، وطيب النغم، فيشيع الانسجام بين الجميع، وتتحقق الوحدة، بالتنوع، ونبني المجتمع الفاضل القائم على الأسس المضادة للزلازل والزعازع.

هذا مجمل القول، وقد نعود إلى هذا الموضوع من جديد لوضع المزيد من النقاط على الحروف.

وكما يقول أئمتنا، في الختام أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى