مصرف السلام الجزائر .. خدمات بنكية أصيلة
أعلام

وقفات مع آثار الدكتور المنصف الشنوفي

بقلم أد. مولود عويمر

لقد رحل العام 2020 أو عام الحزن والكورونا بعد أن أخذ معه العديد من العلماء والمفكرين، إذ مات خلاله مجموعة كبيرة من الأعلام الذين خدموا العلم ونشروا المعرفة بين الناس وكل في مجال تخصصه، وكان آخرهم –في حدود علمنا- مؤرخ الحركة الاصلاحية التونسية والباحث في تاريخ الصحافة والإعلام المعاصر الدكتور المنصف الشنوفي الذي توفي في يوم 30 ديسمبر 2020 عن عمر ناهز 86 سنة حافلة بالعطاء في مجال التربية والتعليم والبحث العلمي.

مسار في سطور

ولد المنصف الشنوفي في تونس عام 1934. تحصل على شهادة التبريز والتحق بجامعة تونس في عام 1967 وعمل أستاذا بكلية الآداب إلى غاية 1992.

ولم يتوقف عن الدراسة والبحث فسجل في قسم الدراسات العليا بجامعة باريس وواصل تحصيله العلمي حتى نال منها شهادة دكتوراه الدولة في الآداب في عام 1970 حول موضوع: “جذور مشكلات الطباعة والصحافة العربية في تونس وعلاقتها بحركة النهضة (1847-1887)”.

ونظرا لاهتمامه بالصحافة من الجانب التاريخي والوظيفي عين مديرا لمعهد الصحافة وعلوم الأخبار في عام 1973 خلفا للأستاذ حسين علية، وبقيّ في هذا المنصب إلى غاية 1990.

وبالإضافة إلى المسؤولية الإدارية، درّس تاريخ الصحافة والحركة الوطنية حتى لا يبتعد عن مهنته الأولى والمحبوبة إلى قلبه، وهي التعليم والتربية، فضلا عن مواصلة البحث العلمي. كما ساهم في تأسيس المعهد العالي لتاريخ الحركة الوطنية وإنشاء نشريتها “وثائق” في عام 1984.

الدكتور الشنوفي في الكويت

انتقل الدكتور الشنوفي إلى الكويت في عام 1992 حيث عمل أستاذا زائرا بجامعتها الفتية التي كانت منذ أيامها الأولى تستقطب إليها أفضل العقول العربية، ففي مجال التاريخ استقبلت نخبة من المؤرخين العرب المعروفين للتدريس في قسم التاريخ أو الأقسام الأخرى، وأذكر منهم الدكتور حسين مؤنس، والدكتور قاسم عبده قاسم والدكتور أحمد عبد الرحيم مصطفى.. من مصر، والدكتور شاكر مصطفى ونور الدين حاطوم.. من سوريا، والدكتور ناصر الدين سعيدوني.. من الجزائر فيما بعد.

أما الدكتور الشنوفي فقد التحق بكلية الإعلام التي سبقه إليها نخبة من المختصين المشهورين في هذا المجال. وقد بقي في هذه الجامعة إلى أن بلغ سن التقاعد في عام 2012.

ولم يقتصر نشاطه على التدريس وتأطير طلبة الدراسات العليا والنشر في مجلة حوليات كلية العلوم الاجتماعية، وإنما تعاون أيضا مع المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب سواء في مراجعة بعض إصداراته أو المشاركة في نشاطاته الثقافية والعلمية أو نشر المقالات والترجمات في المجلات التي كان يصدرها أذكر منها مجلة “الثقافة العالمية”.

دراسات حول الحركة الاصلاحية التونسية

كتب الدكتور المنصف الشنوفي العديد من الأبحاث والدراسات في مجال حركات الاصلاح والنهضة ورجالها في تونس مثل الوزير خير الدين التونسي، وأحمد بن أبي الضياف ومحمد الطاهر بن عاشور.

لقد حقق كتاب “أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك” الذي ألفه خير الدين التونسي، الذي كان من رواد التجديد والإصلاح الإداري والإجتماعي والثقافي في التاريخ العربي والإسلامي الحديث. وقد عبر عن مشروعه الإصلاحي في هذا الكتاب الذي اعتنى به الدكتور الشنوفي عناية خاصة فحققه تحقيقا دقيقا ورصينا وأظهر ما كان يضمره من أفكار تنويرية تساعد المسلمين على الخروج من تخلفهم الحضاري والولوج إلى العالم المعاصر بأمان والسير بخطى ثابتة في طريق التقدم.

ونشر ترجمة وفية للعالم والمؤرخ ابن أبي الضياف، وكذلك عرّف برسالته في المرأة، والتي كانت عبارة عن أجوبة طرحها عليه الخبير في الشؤون الاستعمارية ليون روش الذي كان يسعى إلى تشويه صورة الإسلام لكن ابن أبي ضياف فنّد كل ما يسئ إلى سماحة الاسلام وعدالته الاجتماعية وقيمه الإنسانية التي رسخت كرامة الإنسان بغض النظر عن جنسه ذكرا أو أنثى.  

ودرس الدكتور الشنوفي كتاب “أليس الصبح بقريب” للشيخ ابن عاشور الذي نادى إلى إصلاح التعليم في تونس بشكل عام وفي جامع الزيتونة بشكل خاص بتجديد المناهج وتطوير الوسائل والتفتح على التعليم العصري.

وفي مجال التواصل بين الحركة الاصلاحية التونسية مع غيرها من الحركات الاصلاحية في العالم الإسلامي، درس الدكتور المنصف الشنوفي آثار زيارتي العالم المصري الشيخ محمد عبده إلى تونس بين 6 ديسمبر 1884 و4 جانفي 1985، وفي سبتمبر 1903، فرصد مصادرها وتابع أحداثها وبيّن أصداءها، وحدد الأعلام الذين تأثروا بالشيخ محمد عبده كالشيخ محمد النخلي والشيخ محمد الطاهر بن عاشور والأستاذ بشير صفر والشيخ عبد العزيز الثعالبي وغيرهم من رجال الإصلاح الديني والنضال الوطني في تونس.

وفي السياق نفسه درس الدكتور الشنوفي العلاقات المتبادلة بين العالم السوري المقيم بالقاهرة الشيخ محمد رشيد رضا مع النخبة التونسية بخاصة من خلال مجلته “المنار” التي عرفت رواجا كبيرا في المغرب العربي.

وقد فصّل أكثر في هذا الموضوع الدكتور محمد صالح المراكشي في كتابه “تفكير محمد رشيد رضا من خلال مجلة المنار 1898-1935” بالنسبة لتونس، والدكتور أبو القاسم سعد الله في كتابه “بحوث في التاريخ العربي الإسلامي” بالنسبة للجزائر. وقد استفاد هذان المؤرخان من البحث الرائد الذي أنجزه الدكتور المنصف الشنوفي قبلهما بسنوات عديدة.

وقد نشرت معظم أبحاثه في هذا المجال في مجلة “حوليات الجامعة التونسية” باللغة العربية، وفي مجلة “كراسات تونس” باللغة الفرنسية. وأنا شخصيا استفدت كثيرا من كل أبحاثه لما تتميز به من الجدية والرصانة والأصالة والدقة والأمانة، فأذكر على سبيل المثال بحثه حول زيارتي الشيخ محمد عبده إلى تونس ما زال المرجع الأول بالنسبة للباحثين المشتغلين حول هذا الموضوع رغم مرور أكثر من نصف قرن على صدوره.

كما ساهمت نشرية “وثائق” التي أشرف عليها الدكتور الشنوفي في التعريف بوثائق كثيرة سواء الورقية منها أو الإلكترونية المحفوظة في مراكز التوثيق والأرشيف الفرنسية والمتعلقة بتاريخ تونس المعاصر، ورصد نسخها المنقولة إلى المركز الوطني للأرشيف في تونس. وقد ساعد هذا العمل الباحثين المشتغلين في هذا الميدان.

ولقد اطلعت منذ عامين على أعداد منها لما زرت المعهد العالي لتاريخ الحركة الوطنية في مدينة منوبة، واستفدت من معلوماتها الغزيرة حول الوثائق الخاصة بالشيخ عبد العزيز الثعالبي. وتمنيت دائما أن نجد مثل هذه المطبوعات النافعة عندنا في الجزائر حتى نتقدم أكثر في البحث التاريخي.

دراسات في تاريخ الصحافة والإعلام المعاصر

اهتم الدكتور الشنوفي بالصحافة وجذورها ومشكلات الطباعة في العالم العربي بشكل عام وفي تونس بشكل خاص. وقد اختار هذا الموضوع كبحث لنيل شهادة الدكتوراه من جامعة باريس في عام 1970 كما أشرت إلى ذلك سابقا. وكان عمله عميقا ودقيقا ومحيطا بكل حيثيات الموضوع التي قدمها في جزأين وموزعة على 921 صفحة.

وأنجز أيضا دراسة حول الشيخ عبد العزيز الرشيد (1887- 1938م) الذي يعتبر رائد الصحافة في الكويت لأنه أصدر في سنة 1928 أول مجلة في الخليج العربي، واسمها: مجلة الكويت. ولم تعمر هذه المجلة الاصلاحية إلا سنتين، وساهم فيها نخبة من العلماء والأدباء العرب مثل شكيب أرسلان وعبد العزيز الثعالبي وعبد القادر المغربي وغيرهم من أعلام الفكر والإصلاح في العصر الحديث.

وتظهر أكثر بصمات الدكتور الشنوفي في مجال الاعلام المعاصر لما كان مديرا لمعهد الصحافة وعلوم الأخبار بين 1973 و1990 إذ أسس في عام 1982 مجلة نصف سنوية محكمة بعنوان “المجلة التونسية لعلوم الاتصال”.

وما تزال هذه المجلة تصدر إلى اليوم، وقد صارت من أفضل المجلات المختصة في الإعلام بفضل مقالاتها المنشورة باللغات العربية والفرنسية والانجليزية، فضلا عن عروضها للكتب المنشورة في تونس وفي غيرها من الدول حول الاهتمامات المعرفية لهذه المجلة.

ونشر أيضا دراسات وكتبا مشتركة مع باحثين آخرين حول الإعلام والمعلوماتية بخاصة لما كان أستاذا في جامعة الكويت. وأشرف كذلك على مجموعة من المذكرات ودبلوم الدراسات العليا ورسائل الماجستير والدكتوراه التي أنجزها الطلبة والباحثون التونسيون والكويتيون وغيرهم حول الصحافة والإعلام المعاصر. 

التعريف بكتابات الباحثين الغربيين

ساهم الدكتور الشنوفي في التعريف بالفكر الغربي المعاصر من خلال تعريب بعض النصوص والوثائق وعرض بعض الكتب التي ألفها العلماء الغربيون، وأشير هنا إلى ترجمته لمقال المفكر الأمريكي فرنسيس فوكوياما الذي تراجع عن بعض الأفكار التي طرحها قبل سنوات عديدة، وبشر بها العالم الغربي بنهاية التاريخ، وانتصار الليبرالية على الشيوعية انتصارا محسوما.

كما شارك الدكتور الشنوفي بوصفه مراجعا للترجمة في نشر النسخة العربية لكتاب “مدخل إلى مناهج النقد الأدبي” الذي ألفه مجموعة من الباحثين الفرنسيين والموجه في المقام الأول للمدرسين والباحثين والطلبة الجامعيين.

ونشر كذلك قراءة لعدة كتب للباحثين الفرنسيين حول المجتمع التونسي وتراثه من جوانب مختلفة، أذكر هنا كتاب “الأسرة التونسية والعصر الحديث” للأب أندري ديمرسان، مدير معهد الآباء البيض بتونس، وكتاب “الصناعة التقليدية بتونس” لجاك ريفو، الباحث في المركز القومي الفرنسي للبحث العلمي، وكتاب “الخلافات في الإسلام” للمستشرق الفرنسي هنري لاووست الذي زادت شهرته بفضل هذا الكتاب الذي صدر في عام 1965، بعد أن عرفه القراء قبل ربع قرن من خلال كتابه حول شيخ الاسلام تقي الدين أحمد بن تيمية الذي صدر في عام 1939.

وتتسم هذه العروض للكتب المختارة بالوصف الدقيق والتحليل المختصر والنقد الخفيف، وكان دائما يثني على القيمة العلمية لهذه المؤلفات التي تتوفر على الرصانة والشمول، ويعبر عن تقديره لجهود أصحابها الذين يتميزون بكفاءتهم العالية في مجال الدراسات الاستشراقية علاوة على خبرتهم الميدانية التي اكتسبوها باحتكاكهم بالمجتمعات العربية طيلة سنوات عديدة.

إن مسار الدكتور المنصف الشنوفي حافل ومتنوع، وكان ينتقل بين تاريخ الصحافة والإعلام المعاصر مدرسا وباحثا وكاتبا ومشاركا في تأسيس مؤسسات تعليمية وبحثية في الاعلام والإشراف عليها، وهذا ما يذكرني دائما بالباحث الجزائري الدكتور زهير إحدادن الذي كان له مسار علمي متشابه، ولهما اهتمامات علمية وبحثية مشتركة.

نسأل الله أن يرحم الدكتور المنصف الشنوفي، ويرزق أمتنا باحثين أمثاله علما وعملا وتفانيا في خدمة العلم ونشر المعرفة، وتقدم مجتمعاتنا العربية والإسلامية.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى