مصرف السلام الجزائر .. خدمات بنكية أصيلة
كلمة الرئيس

تأملات وخواطر في ذكرى ملحمة البصائر

بقلم الدكتور عبد الرزاق قسوم

في مثل هذه الأيام، منذ ما يزيد على الثمانية عقود، بزغ نجم البصائر في سماء ملبدة بالغيوم، وعلى أرض مثقلة بالهموم، ووسط محيط إعلامي عدائي ملوث بالسموم.

ففي الفاتح من شوال عام 1354هـ الموافق لـ27 ديسمبر عام 1935م، ولدت جريدة البصائر الغراء، لتكون “حادي العيس” باسم جمعية العلماء، ولتبلغ رسالة السماء إلى الأمة جمعاء.

مثلت البصائر، منبرا لكل قلم بليغ، ولكل ذي علم ضليع، ولكل حامل للفكر الوطني المنيع، فتحمل إلى الشعب الجزائري شعارات، أن “حي على الفلاح”، “واستعدوا لمعركة الكفاح”، و”هلموا إلى الصلاح والإصلاح”.

أذنت البصائر –إذن- في شعبنا الذي كان يعاني الجذب، والقحط، وسوء النماء، فكان لأذانها في عقل وقلب، الأحرار والحرائر من أبناء الجزائر مئذنة.

واليوم، وقد انقضت خمس وثمانون سنة على ميلاد البصائر، ماذا عسانا نقول فيها، سوى، أنها كبرت وما هرمت، وعظمت وما ضعفت، واشتدت وما هزلت.

وماذا عساني أقول فيها، وأنا الذي فتحت عينيّ على حروف صفحاتها، وأذنيّ على نغمات مقالاتها، وعقلي على فكر رجالاتها؟

إن البصائر، بالنسبة إلي، هي رفيقة دربي،وحلقة الحب بيني وبين شعبي، ورابطة الصلة بيني وبين ربي، وملهمتي إلى سلوك دربي.

فبهذا المعلَم الإعلامي الوطيد، اكتشفنا علماء أجلاء، نذروا أنفسهم لله وللوطن، وتجندوا لمقاومة الخنوع، والخضوع، وعبادة الوثن، ﴿فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ[سورة آل عمران، الآية 146].

بالبصائر عرفنا أئمة أجلاء، ابن باديس، والإبراهيمي، والعقبي، والميلي، والعمودي، والتبسي، وبيوض، وأبي اليقظان، وتوفيق المدني، وخير الدين، وغيرهم كثير، لقد كانت هذه الصفوة من العلماء، هي خير من حمل على عنقه، حمل الجزائر، فذاد عن حياضها، ونافح لإنهاضها، وأذن لإيقاظها.

كانت البصائر –إذن- هي رسالة الجزائر إلى الأمة، وإلى العالم، تبث آلامها، وتبلغ آمالها، وتنشر على الجميع أعمالها.

خدمت البصائر، العلم الديني في أجلى معانيه، فخلصته مما كان يعانيه، وبرأته مما ألصقه به بعض مدعيه، وقدمته صافيا نقيا، تضيء لآليه.

وأبلت البصائر في سبيل الدفاع عن لغة الضاد، البلاء الحسن، فأبرزت رموزها، ونحتت كنوزها، وصقلت نثرها وأرجوزها، فأبانت بذلك للعالم عن عراقة الجزائر، مجلية للظواهر والسرائر، ومبشرة بالمستقبل الزاهر.

وأحيت البصائر بفضل أقلامها مجد الجزائر، وتاريخها التليد الغابر، والتخطيط المحكم للطريق السائر، فكونت الجيل الثائر، الذي لا يؤمن إلا باستقلال الجزائر.

فلو أن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين لم تقدم من أعمالها إلا عمل البصائر، لكفاها فخـرا، في تعزيز البناء الوطني، لأنها بهذه البصائر، قد خدمت الفكر الإسلامي الصحيح، وقومت اللسان العربي الفصيح، وأبانت عن عراقة الوطن الجزائري، في مطالبته بكل شجاعة، وبراعة، عن الاستقلال الكامل الصريح.

فكيف إذا أضافت جمعية العلماء، إلى هذا الإنجاز الإعلامي الوطيد، التشييد التربوي للجيل العتيد، والإصلاح الاجتماعي للشعب المجيد، والوقوف بكل عزة وصلابة في وجه الاستعمار البغيض العتيد ؟

وكل ذلك، إنما تم بفضل الخطاب الإعلامي الإسلامي الأصيل، الذي حملت رسالته ثلة العلماء الماهدين، فكانوا نورا لشعبهم، ونارا على عدوهم.

وهكذا توالت رسالة البصائر الرائدة، في الاضطلاع بمهمتها الوطنية الحضارية الشاهدة. فهل ضعفت البصائر اليوم؟ وهل استكانت؟ وهل تخلت عن تبليغ رسالتها، بأداء مشهود، وعمل محمود؟

معاذا الله ! فالبصائر التي توارثها المثقفون الجزائريون، أبا عن جد، تواصل اليوم أداءها بكل جرءة وشجاعة، تتصدى بالحكمة والموعظة الحسنة، للمفسدين، وللظالمين، وللمستبدين.

وللذين يجهلون خبايا، إعداد البصائر اليوم، وإصدارها، نقول، بأن كل عدد يصدر هو معجزة من المعجزات.

وكان شيخنا المرحوم عبد الرحمان شيبان يعبر عن هذا بكل لوعة وحسرة، فيقول عن نفسه، عندما  كان مسؤولا عن البصائر، إذا كان الحامل تعاني آلام الوضع كل تسعة أشهر، فأنا أعاني آلام الوضع البصائري كل أسبوع.

وصدق شيخنا المرحوم في تصوير هذا الوضع، فلكم أن تتصوروا جريدة بالمقومات الإعلامية المطلوبة، مع ضعف الإمكانات المادية والبشرية، ومع ذلك تخرج في حلتها البهية التي تطل بها كل أسبوع على الناس، إن في ذلك –حقا- لعبرة.

لا يعرف الشوق إلا من يكابده      ولا الصبابة إلا من يعانيها

وإذن، فاليوم ونحن نحيي الذكرى السادسة والثمانين لجريدة البصائر، وسط محيط يعاني هو الآخر، القحط والجذب، ﴿..كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ[سورة الأعراف، الآية 29]، فإننا نضع قبلة إعجاب وامتنان، على جبين كل من يقدم جهدا، لهذه الصحيفة العتيدة الرائدة، بدء بالكُتاب الميامين، المواظبين، الذين ما بدلوا تبديلا، وكل ذلك تطوعا، وفي سبيل الله والوطن، وانتهاء بالمصممين، والموزعين، والقارئين، الذين لولاهم جميعا، ما صمدت الجزائر، ولا ثبتت.

وإنني بهذه المناسبة، أناشد الوطنيين، المخلصين في وطننا، وخاصة الأغنياء المحسنين، أن يمدوا البصائر بما آتاهم الله من فضله، حتى تقدم بعض ما يجب لكتابها والعاملين عليها، حتى تبقى البصائر ثابتة، وتزداد إشعاعا وازدهارا.

إن البصائر –إذن- أمانة في أعناق كل الجزائريين، وهي الإرث الغالي، الذي سلمه لنا أجدادنا، وخير وفاء للماهدين الماجدين، هو أن نحافظ على هذا التراث، وأن نصونه، ونعمل على أداء رسالته كاملة غير منقوصة.

فإن لم نفعل –لا قدر الله- وسقط المشروع بين أيدينا، ونحن عصبة، إنا إذن لخاسرون، ومعاذ الله أن يحدث ذلك.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى