اعتذر إليك، يا صديقي المفترض، إن كان خطابي هذا، قد خلا من عبارات الود والتقدير، وأتجه مباشرة إلى ما ملأ العقل من تفكير.
وتسألني: ماذا جرى؟ وأقول لك: أن ما جرى، قد أطار من العين الكرى، وأعادنا القهقرى، وأزعج حتى الميتين تحت الثرى.
أيعقل، -يا صديقي المثقف- أن يُقدِم مغرب العلماء الأحرار والطلاب الجامعيين الثوار، والأباة من الرجال والنساء المغاربة الأطهار، هل يعقل أن يَصدُرَ من المغرب هذا المنكر البَوار، بالتطبيع مع الصهاينة المعتدين الأشرار؟
كنا نظن، وبعض الظن إثم، أن إمارة المؤمنين في المغرب الشقيق، وهي المؤتمنة على أوقاف المغاربيين، في الأقصى، هي التي ستؤمنا كفاتِحين، للصلاة في المسجد الأقصى، فإذا بها، بهذا التطبيع الأقسى، تفتح بيت المقدس، لأعداء الأقصى، فيا للطيمة، ويا للأسى!
لقد كان الأمل، يحدونا، بأن شمس الحضارة الإسلامية، سيعاد بعثها من المغرب العربي الإسلامي، بفضل أفكاره الواعدة، وأنواره الصاعدة، وخطاباته الإسلامية الرائدة.
فقد فتحنا أعيننا على الأفكار الثورية التي نادى بها عبد الكريم الخطابي، وعلال الفاسي، ومحمد الفاسي، فتغنينا ونحن أطفال، بنشيد علال الفاسي:
إلى كم نعيش بدون حياة؟
وكم ذا ننام عن الصالحات؟
فوا حسرتاه على حالنا
وماذا استفدنا من الحسرات؟
كما فتحنا أعيننا على الفكر الثوري التحرري الذي صرح به مفكرون من أمثال محمد عابد الجابري، وطه عبد الرحمن، وعبد السلام ياسين، ونظرائهم في الجزائر كمحمد البشير الإبراهيمي، ومالك بن نبي وأبو القاسم سعد الله، ومن يحمل نفس فكرهم في تونس، كأبي القاسم الشابي، ومحمد الفاضل بن عاشور، وعبد المجيد النجار، وغيرهم.
فأين أنتم، يا أصدقائي المثقفين المفترضين المغاربة من فكر هذا الرعيل المغاربي الأصيل؟
فقد كنتم –بالقوة- مؤهلين لقيادة الأمة، لإضاءة البيت، وقيادتها لفتح غزة والقدس، وبئرزيت، ولكنكم للأسف الشديد، صرتم توطّدون للعدو أكناف البيت، وتقدمون له في دياركم التمر والحليب، والزيت.. فيا للرزية! ويا لَضياع الصيت!
ليس العيب، يا صديقي المثقف المفترض أن يتعثر المغرب، هذه العثرة الهوجاء بالإقدام على التطبيع مع الصهاينة الألداء، ولكن العيب، كل العيب، أن تلقى هذه العثرة من المثقفين المغاربة الشرفاء، التبرير والإطراء، أو اللامبالاة، وإتباع السياسة الخرساء.
إننا بالرغم، مما حدث من هذا المنكر البواحْ، لا زلنا نأمل، بأن في المغرب عقولا راجحة، وخطابات ناصحة، ووطنيات سانحة، وهي الكفيلة بأن تضع حدا لهذه الخيانة الفاضحة.
عار عليكم، يا أصدقاءنا المثقفين، ويا أشقاءنا المغاربة الميامين، عار عليكم أن يسجل التاريخ، عليكم، هذا المنحنى الخطير، في هذا الزمن العسير.
فلا يغرنكم ناعق من الشرق أو الغرب، يسوّل لكم ما أنتم فاعلون، ويزيّن لكم ما أنتم عليه مقدمون.
والأنكى من كل هذا، أن يكون ما أقدمتم عليه من عار، في شكل مقايضة، فلماذا يا أشقاءنا، تخلطون التبر بالتراب؟ وتعالوا، نصارحكم، فقارضونا صراحة بصراحة.
لماذا، تنتحلون لأنفسكم الأعذار، فتتخذون من قضية الصحراء الغربية، تبريرا، لهذا العار، وتلحقون بهذا التبرير سبب إلصاق هذا العار، بشقيقتكم الجزائر، وهي دولة الجوار.
ويشهد العالم أجمع، أن الجزائر ما فتئت تعلن بأنه لا مطمع لها في الصحراء، وأن القضية موكولة إلى بلدين هما الصحراء والمغرب.
وأعتقد جازما، لو أن قضية الصحراء وجدت عقلا واعيا، وخاصة من المثقفين المغاربة لتُوِّجت بالحل الذي يرضي الطرفين ويفتح الأفق واسعا أمام بناء المغرب العربي المصادر.
وإن مما يُحيِّرنا في قضية الصحراء الغربية أن الموقف المغربي متغير وغير ثابت.
فقسمته للصحراء مع موريتانيا في البدء كانت المقدمة الخاطئة، ثم تلاها موقف المرحوم الملك الحسن الثاني بقبول مبدأ تقرير المصير، ثم تحول عنه إلى مبدأ الاستقلال الذاتي، فأي المواقف نصدّق؟
وقبل هذا سبق للمغرب أن أعلن أن موريتانيا، حتى بعد استقلالها، هي جزء من المغرب، ولم يعترف بها، إلا في عام 1968، ثم إعلان حرب الرمال على الجزائر، غداة استقلالها، وهي لا تزال لم تضمد جراحها، من الحرب.
فما هو موقفك، يا صديقي المثقف المفترض من كل هذه المواقف المتغيرة؟ وما موقف المثقفين المغاربة الحكماء من كل هذه النماذج من السلوك؟
فهل سنشهد مستقبلا أن تمنح المغرب في يوم ما، الاستقلال الذاتي لطنجة، أو مراكش، أو وجدة، وهي أجزاء من المغرب؟
حيرنا والله، الأمر السياسي المغربي، ويعلم الله أننا لم نجد له منطقا تاريخيا أو سياسيا، يجعلنا نتبناه وندافع عنه.
إن ما نريده من أصدقاءنا المثقفين المغاربة، أن يكونوا أتباع مبادئ لا أتباع مصالح، فيرتفعوا إلى مستوى بناء المغرب العربي المنشود، الذي تذوب فيه الذاتيات، وتثبت فيه القيم والمقومات.
وعهدا من المثقفين الجزائريين، أنهم سيدفعون بعجلة بناء المغرب العربي إلى الأمام، غير مبالين بالظرفيات، والعراقيل والعقبات بشرط واحد، هو أن لا يمد أي أحد منا يده إلى العدو الصهيوني، لا ليطبع معه فالتطبيع أصلا خاطئ، بل حتى لمصافحته ما دام يؤمن بالفلسفة الصهيونية التوسيعية العدوانية، التي تقيم كيانا مغتصبا على حساب حق أصيل.
وإننا قوم نؤمن بأن البقاء سيكون للأصلح، والأحق، ﴿أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾ [سورة الأنبياء، الآية 105]، حسبنا الله ونعم الوكيل
﴿وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ﴾ [سورة الشعراء، الآية 227]