“التوزيع المنصف” للقاحات المضادة لفيروس كورونا مشكلة تتقاذفها عوالم ثلاث: عالم الأفكار، وعالم الأشخاص، وعالم الأشياء؟؟
بقلم محمد مصطفى حابس: جنيف / سويسرا
مشكلة مرتقبة تواجه العالم هذه الأيام، مع بدء عملية توزيع اللقاحات المضادة لفيروس كورونا، وهي مشكلة “التوزيع المنصف” للقاح لكل دول العالم، وهي المعادلة الصعبة مع اختلاف قدرات وإمكانات الدول والحكومات حول العالم.
حاليا، هناك مخاوف حقيقية من أن تتخلف البلدان الفقيرة عن ركب الحصول على اللقاح، لأن الدول الغنية “تخزن” جرعات من لقاح فيروس كورونا أكثر من حاجتها، مثل ما خزنت وتخزن كعادتها دائما الدول العظمى الغذاء حتى يتعفن أحيانا في الحاويات والمبردات ولا تعطيه لغيرها من الدول وآحيانا حتى لشعوبها الفقيرة والمحتاجة؟؟
ووفقا لأخبار رسمية متداولة، فقد جمعت الدول الغنية مخزونا كبيرا بما يكفي من جرعات اللقاح لتحصين شعوبها ثلاث مرات تقريبا بحلول نهاية العام المقبل، بانتظار أن تتم الموافقة رسميا على جميع اللقاحات من قبل حكوماتها وهيئاتها الصحية..
وتأتي هذه الإحصاءات من منظمة تحالف لقاح الشعب، التي تضم منظمة أوكسفام ومنظمة العفو الدولية، وتم الحصول على الإحصاءات بتحليل الصفقات التي تمت بين الدول و8 شركات رئيسية تنتج اللقاحات ..
ومن بين الإحصاءات التي تم التوصل لها، هو أن جميع جرعات لقاح مودرنا المرتقب، تم شراؤها من قبل دول غنية، كما أن 96 بالمئة من جرعات لقاح فايزر الجديد، تم شراؤها من الدول الغنية أيضا؟؟
وبالنتيجة، تم تأمين 53 بالمئة من جرعات اللقاحات لـ14 بالمئة من سكان العالم فقط، فمثلا كندا حصلت على جرعات تكفي لتلقيح كل مواطن كندي 5 مرات، و كذا سويسرا و دول اخرى بنسب متفاوتة ؟؟..
إنّها قسمة ضيزى، إنه الجشع بعينه، بل حب الدنيا وحب البقاء باي ثمن.. نعم هذا هو نهم المادية الغربية، نعم هذا هو جشع القوى العظمى، فاين كرامة الإنسان أين روح التضامن بين الشعوب والأمم؟
خسارة، فقد طغى عالم الأشياء على عالم الافكار عن طريق عالم اشخاص لا يرحمون فينا إلا وذمة…
أين هم ونحن من أهم إبداعات المفكر الحكيم مالك بن نبي وهو ينحت للبشرية موضوع هذه العوالم الثلاثة:
عالم الأشياء وعالم الأشخاص وعالم الأفكار؛ حيث تتدرج الإنسانية من عالم الأشياء المحسوسة بداية، ومن ثم تتطور فتكون دائرة تأثيرها منوط بعالم الأشخاص ومن ثم تبلغ رشدها فتصبح الفكرة ذات قيمة في حد ذاتها.
حيث قدم المفكر بن نبي، رحمه الله، في كتاباته تصوراً لثلاثيته بقوله: “إن الإنسان يعيش في ثلاثة عوالم: عالم الأفكار، وعالم الأشخاص، وعالم الأشياء، ولكل حضارة عالم أفكارها، وعالم أشخاصها، وعالم أشيائها.”
ويقصد بعالم الأفكار: مجموعة المعتقدات والمسلمات والتصورات والمبادئ والنماذج التي تحتويها عقول مجتمع ما في لحظة تاريخية ما..
أما عالم الأشخاص: فيقصد به مجموعة العلاقات والنظم والاتصالات والقوانين التي تنظم حياة الأشخاص الذين يكونون هذا المجتمع فيما بينهم. فعالم الأشخاص مرتبط بالشخص من حيث اسمُه، نسبه، عرقه، شكله، عشيرته، ماله
أما عالم الأشياء: فهو كل ما ينتجه هذا المجتمع من مبانٍ وشوارع وزراعة وصناعة، وغير ذلك من المنتجات والخدمات المحسوسة والملموسة..
والمجتمع في رحلة صعوده يتنقل بين العتبات الثلاث من عالم (الأشياء) إلى عالم (الأشخاص) ليقفز في النهاية إلى عالم (الأفكار). .
والصنم (شيء) والبدائيون عبدوا الشجر والحجر، والتوحيد (تجريد) والوثنية (تجسيد). والتوحيد قفزة في الوعي الإنساني …
فأين العالم من هذا الترتيب الحضاري الإنساني وأين نحن أهل القبلة وحكامنا العرب ومسيري خيرات اراضينا من هذه القيم وهذه العوالم التي كان من المفروض ان نعيش منها وبها في سؤدد وسلام، ونحلق سويا في اجوائها منتشين بعدالة رب الأنام.. ؟؟
لكن، خسارة لا حياة لمن تنادي، ويعجبني في هذا المقام، ما كتبه، عن مثل هذه العثرات والخذلان بل الخيانات، استاذنا المفكر وعالم الفيزياء، الدكتور نوار ثابت، رئيس جامعة قسنطينة الأسبق متعه الله بالصحة والعافية..
حيث ضرب مثلا من واقعنا المعاش، فقال:
دشنت تركيا في الصيف الماضي مصنعا لإنتاج الالواح الشمسية، وليس مصنعا لتجميع الخلايا المستوردة كما هو شائع عندنا، مصنع يشمل كل المراحل التكنولوجية لصناعة الألواح من انتاج سبيكة السيليكون فالرقاقة فالخلية فاللوحة..موضحا بقوله: “من المؤكد أن الأتراك يدركون أنه لا يمكنهم منافسة الصينيين اليوم، فقد عجز عن ذلك الألمان والأمريكان. لكن العجز عن منافسة المزارعين الكبار لا يجب ان يمنعك من زرع حديقتك”؟؟.. ثم ضرب أمثلة أخرى، عن صناعات غيرها كالسيارات و النسيج و الالكترونيات فقال: “لم تنشا صناعة السيارات والالكترونيات في كوريا أو اليابان. فقد اخترع الترانزيستور في منتصف القرن الماضي، في مختبرات بل لأب الأمريكية. لكن اليابانيين هم من صمموا أول جهاز عوضت فيه الأنابيب المفرغة بالترانز يستورات لأن الامريكان كانوا يحاولون حماية استثماراتهم في التكنولوجيا القديمة.
أما الكوريون فكانوا يعتمدون على صناعة النسيج حتي السبعينيات من القرن الماضي. ولم تبدأ شركة سامسونغ التي انشئت كشركة تجارية بحته سنة 1938، الاهتمام بصناعة الالكترونيات إلاّ في بداية السبعينات وتصنيع الهواتف النقالة في التسعينات. واستطاع الكوريون التحول الى صناعة الالكترونيات والحاسوب واحتلال المقدمة في اقل من عقدين من الزمن.
اللافت في المشروع التركي انه تم انشاء مركز للبحوث يضم مائة عالم مهمتهم توطين وتطوير التكنولوجيا وبناء القدرة التنافسية للصناعة الناشئة. فرق بين ان تشتري التكنولوجيا لتسد حاجة اليوم وان تفعل من اجل بناء قدرة تحررك من التبعية المستدامة..
وخلص للقول أن “الأمم تصنع مستقبلها بيدها بالتخطيط على الامد البعيد وتجند من اجل ذلك ما تملك من قدرات، لكن حين نسمع الحديث عن انشغال بعض من تولوا أمرنا في الجزائر بتطوير”استراتيجية لاستيراد اللقاح“، أشعر بشيء من الحزن والغضب… متسائلا مثلنا: متى يتولى عندنا الاكفاء ويذهب الزبد؟
فاللهم إن نبرأ إليك مما فعل سفهاء حكام العرب بشعوبها من تفقير وتجويع وتشريد للعباد وتبديد للخيرات وتدميرا للقدرات.. إلى أبد الآبدين.
كما نبرأ إليك يا ربنا، من فعله بقومنا كل النخاسين والمتاجرين والمتآمرين الذين تنكروا لدماء الشهداء واستخفوا بعذابات المعذبين و نصائح المرشدين.
ولا يسعنا إلا أن نرفع أكف الضراعة لله سبحانه في هذه الظروف الصحية الصعبة أن يرفع عنا الغلاء والوباء و البلاء و يستجيب الدعاء بجاه سيد الانبياء.