الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على رسوله الأمين محمد – صلّى الله عليه وسلّم -، وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، ومن اقتفى أثرهم وسار على دربهم إلى يوم الدين، أما بعد:
تمرّ بنا في هذه الأيام ذكرى اليوم العالمي للطفل، والتي تأتي في العشرين من شهر نوفمبر في كل عام، ونحن في كل مناسبة نُبين وجهة نظر الإسلام كي يكون المسلم على بَيِّنة من أمور دينه،فمن نعم الله على الإنسان أن يُكرمه الله بالذرية الصالحة، فالأبناء هِبَةٌ من الله عزَّ وجلَّ، كما جاء في قوله سبحانه وتعالى:{لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَآءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ الذُّكُورَ* أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ}(1).
لقد عُني ديننا الإسلامي الحنيف عناية كبيرة بالأبناء بصفة عامة من المهد إلى اللحد ، فهم فلذات الأكباد وَسَنَدُ السّواعد، كما عُني بمرحلة الطفولة بصفة خاصة ، ومن أجل ذلك فقد حَرَّم الإسلام الزّنا لأنّ فيه ضياعاً للنسل وخَلْطاً للأنساب، كما اعتبره فاحشةً وَمَقْتاً وساءَ سبيلاً ، وأوجد البديل ألا وهو الزواج؛ لذلك دعا رسولنا – صلّى الله عليه وسلّم- إلى بذل الجهد في اختيار الزوجة الصالحة، كما حثَّ على تحصين الولد عند وضع النّطفة في الرحم، ومن المعلوم أنّ حفظ النسل أمرٌ ضروري حيث اتفقت الديانات السماوية على وجوب صيانة واحترام الأركان الضرورية للحياة البشرية، وهي : الدين والنفس والعقل والنسل والمال، فقد ذكر الإمام الغزالي في كتابه ” المستصفى: ” أنّ حرمة الضرورات الخمس لم تُبَحْ في مِلَّة قط”، أي أن الديانات السماوية قد أوجبت حرمة هذه الضرورات الخمس.
ومن المعلوم أنّ الأطفال هم شباب الغد وأمل المستقبل ، وعلى عاتقهم تقع مسئولية حماية الأمم والشعوب، وكلّما ارتقينا في مفهوم الاهتمام بالطفولة، كان ذلك اهتماماً بمستقبل الأمة، وذلك بتوفير الرعاية الصحية والنفسية والاجتماعية للأطفال؛ لأنهم الثروة التي تجب مراعاتها والمحافظة عليها ، ولا يجوز إهمالها أو التقصير فيها بأيّ حال من الأحوال.
رَبَّنَا هَبْ لنا من أزواجنا وذرياتنا قُرَّةَ أَعْيُن
من المعلوم أنّ من أهم مقاصد الزواج في ديننا الإسلامي الحنيف هو المحافظة على النّوع الإنساني؛ لأنّ الإنسان مجبولٌ على حبّ البقاء، ولا يكون ذلك إلا من خلال نسله المنسوب إليه الذي يُنْجبه عن طريق الزواج الشرعي، والذي يُعَدّ نعمة على الإنسان وآية من آيات الله سبحانه وتعالى.
ولنا في الأنبياء والمرسلين- عليهم الصلاة والسلام- وعباد الله الصالحين الأسوة الحسنة، حيث إِنّهم دعوا الله سبحانه وتعالى أن يرزقهم الذرية الصالحة.
* فهذا سيدنا إبراهيم – عليه الصلاة والسلام- يتوجه إلى الله سبحانه وتعالى بالدعاء أن يهبه الذرية الصالحة كما جاء في قوله سبحانه وتعالى: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ * فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ}(2).
* وكذلك عباد الرحمن الذين يتضرعون إلى الله سبحانه وتعالى بالدعاء أن يهبهم من أزواجهم وذرياتهم قُرَّةَ أَعْيُن ، كما جاء في قوله سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} (3).
وإذا كان الإنسان مُحِبّاً للذرية الصالحة من البنين والبنات؛ فلأنّ الأبناء يكونون قُرّة أَعْيُن لآبائهم وأمهاتهم إذا عاشوا على الطريق المستقيم، فالأبناء هم فَلِذات الأكباد وَسَنَد السّواعد.
وبهذا يتمّ التناغم بين الأبُوة والبُنُوَّة، لأن الأُبوة والأمومة الصالحة تكون سبباً رئيساً في صلاح الطفل كما جاء في قوله تعالى: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا}(4)، كما أنَّ البُنُوّة الصالحة هي امتداد طبيعي لعمل الأبوين الصالح في الحياة الدنيا، كما جاء في الحديث الشريف عن النبي – صلّى الله عليه وسلّم – أنه قال: ( إِذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلا مِنْ ثَلاثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ ) (5).
الهدي النبوي في تربية الأطفال
لقد وَجَّه رسولنا – صلّى الله عليه وسلّم- الوالدين إلى وجوب تربية الأطفال والعناية بهم وتعويدهم على الفضائل ومكارم الأخلاق، وذلك بغرس بذور الإيمان في قلوبهم ورعاية جميع
شئونهم، لأنّ الطفل إذا أُهمل فسدت أخلاقه وتَلَوَّثت طِبَاعه، فَمَنْ شَبَّ على شيء شَابَ عليه، وكما
قال الشاعر:
وَيَنْشَأُ نَاشِئُ الْفِتْيَانِ مِنَّا عَلَى مَا كَانَ عَوَّدَهُ أَبُوهُ
فبالتربية السليمة والأخلاق الفاضلة تُبنى الأمم وَتُشَاد الحضارات وتتربى الأجيال الصاعدة، لذلك فقد اهتم ديننا الإسلامي الحنيف بتربية الأطفال وتنشئتهم التنشئة الصالحة، التي تجعل منهم رجالاً وأبطالاً وتدفع بهم إلى المعالي.
وعند دراستنا للسيرة النبوية نجد أنّ رسولنا – صلّى الله عليه وسلّم- قدْ حثَّ الوالدين على وجوب العناية بالأطفال، وذلك في عدد من الأحاديث النبوية الشريفة، منها:
* قوله – صلّى الله عليه وسلّم -: ( أَدِّبُوا أَوْلادَكُمْ على ثَلاثِ خصالٍ : حُبِّ نَبيِّكُمْ، وحُبِّ آلِ بَيْتِهِ، وتِلاوةِ القُرانِ، فإنَّ حَملةَ القُرانِ في ظِلِّ عرشِ اللهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إلا ظِلُّهُ مَعَ أنبيائِه وأصْفيَائِهِ) (6).
* وقوله- صلّى الله عليه وسلّم- أيضاً : (مُرُوا أَوْلادَكُمْ بِالصَّلاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ) (7).
إِنَّ مُهِمّةَ تربيةِ الأطفال مهمّةٌ جليلة، خصوصًا في هذه الأوقات، فليس دوركم أيها الآباء هو توفير الأمور المادية فقط، بل هذا واجب عليكم تجاه أطفالكم، ولكن أيها الآباء عليكم واجب أعظم من ذلك، وهو تَحَمُّل المسؤولية الكبرى في تربية أطفالكم وتعليمهم ومتابعتهم، وغرس القيم والآداب والأخلاق الإسلامية في نفوسهم، وحَثِّهم على قراءة القرآن الكريم وحفظه، حتى يَشبّوا على مائدة القرآن الكريم، فَتُهذّب أخلاقهم وَتُصَفّى نفوسهم.
الرسول مع الأطفال
لقد ضرب رسولنا – صلّى الله عليه وسلّم – أروع الأمثلة في رحمته بالأطفال وشفقته عليهم، كيف لا؟! وهم ثمرة الفؤاد وَمُهَجُ القلوب ،حيث جاء في الحديث عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، قال: (خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي إِحْدَى صَلاتَيِ الْعِشَاءِ وَهُوَ حَامِلٌ حَسَنًا أَوْ حُسَيْنًا، فَتَقَدَّمَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَوَضَعَهُ، ثُمَّ كَبَّرَ لِلصَّلاةِ، فَصَلَّى، فَسَجَدَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ صَلاتِهِ سَجْدَةً أَطَالَهَا، قَالَ أَبِي: فَرَفَعْتُ رَأْسِي؛ وَإِذَا الصَّبِيُّ عَلَى ظَهْرِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -وَهُوَ سَاجِدٌ، فَرَجَعْتُ إِلَى سُجُودِي، فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الصَّلاةَ؛ قَالَ النَّاسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّكَ سَجَدْتَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ صَلاتِكَ سَجْدَةً أَطَلْتَهَا ! حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ قَدْ حَدَثَ أَمْرٌ، أَوْ أَنَّهُ يُوحَى إِلَيْكَ ؟! قَالَ كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ ، وَلَكِنَّ ابْنِي ارْتَحَلَنِي، فَكَرِهْتُ أَنْ أُعَجِّلَهُ، حَتَّى يَقْضِيَ حَاجَتَهُ) (8).
إِنَّّ الرحمة عند رسولنا – صلّى الله عليه وسلّم – لم تكن مُجَرَّد سِمَة وخُلُق جُبِلَ عليه- صلّى الله عليه وسلّم- فحسب، بل كان يُعلّم الناس الرحمة ويدعوهم إليها ، وَيُنكر على أولئك الذين لا تبدو منهم الرحمة لمن يستحقها،كما جاء في الحديث عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال : ( قَبَّلَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ وَعِنْدَهُ الأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ التَّمِيمِيُّ جَالِسًا ، فَقَالَ الأَقْرَعُ: إِنَّ لِي عَشَرَةً مِنْ الْوَلَدِ مَا قَبَّلْتُ مِنْهُمْ أَحَدًا ، فَنَظَرَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثُمَّ قَالَ: مَنْ لا يَرْحَمُ لا يُرْحَمُ )(9).
وفي موقف آخر يَصِفُ رسولنا – صلّى الله عليه وسلّم – مَنْ فقدَ الرحمة بالأطفال بأنه قد نُزِعَت الرحمة من قلبه، كما جاء في الحديث عن عروة عن عائشة – رضي الله عنها – قالت: جَاءَ أعرابيٌّ إلى النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فَقَالَ: (تُقَبِّلُونَ الصِّبْيَانَ فَمَا نُقَبِّلُهُمْ ! فَقَالَ النَّبِيُّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أَوَ أَمْلِكُ لَكَ أَنْ نَزَعَ اللَّهُ مِنْ قَلْبِكَ الرَّحْمَةَ) (10) .
هذا هو ديننا الإسلامي الحنيف يعطف على الأطفال، وَيُوصي بهم خيراً، ويعتني بهم تربيةً وتأديباً وتعليماً؛ حتى يَتَحَقَّقَ إسهامهم في بناء المجتمع والنهوض به، فهم عماد الأمة وثروتها.
وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين
الهوامش :
1- سورة الشورى الآيتان (49-50 ) 2- سورة الصافات الآية (100-101) 3- سورة الفرقان الآية (74)
4- سورة الكهف الآية (82) 5- أخرجه مسلم 6- أخرجه الطبراني 7- أخرجه أبو داود
8- أخرجه النسائي 9- أخرجه البخاري 10- أخرجه البخاري