
سما شعبنا الجزائري، بفطرته، وفطنته، إلى أعلى مستوى من الوعي والنضج لتحقيق فكرته، فعالج قضايا المستقبل والمصير بالأسلوب السلمي، الذي هو الزهد والمقاطعة، وهو أبلغ تعبير.
فقد أبان، شعبنا، في هذا العراك، عن إبداع آخر من أنواع الحراك، فلم يحدث فتنة، ولم يتسبب في محنة، وإنما، عبّر عن حسن إدراك بعدم الاشتراك.
قال الشعب –إذن- كلمته، دون غموض أو إبهام، بأن الدستور المعروض للاقتراع، مهما تضمن من محاولات التغيير والإبداع فإنه لم يخلُ من ألغام جسام، وكلها من شأنها أن تذكي المزيد من الصراع، وتؤدي إلى الخصام والانقسام.
وبعيدا عن القراءات الإيديولوجية لنص الدستور، ودون الانتصار لأية قاعدة حزبية، فإن الحكمة السياسية تقتضي من القائمين على الشأن الوطني، أن يحسنوا الإصغاء لنتائج الاستفتاء، سواء من حيث نسبة المشاركة والإدلاء، أو من حيث نسبة المقاطعة والإلغاء.
فلا يحتاج المرء إلى فلسفة ميكيافيلي، أو نظرية الماوردي، كي يستنبط الأحكام، ويتبيّن المقاصد وأبعاد المرام.
ولو كان الاقتراع على شخص من الأشخاص أو على نص، محدود بزمن للاستئناس، لأمكن القول بأنه لا يعدو أن يكون مصدرا للاقتباس.
لكم النص الدستوري الذي هو أمامنا، يأتي في مرحلة جد حرجة، ترفع شعار التغيير، وتعمق مستوى التفكير، وتهدف إلى تخليص العقول، من عواقب سوء التسيير.
فكيف والحالة هذه، نوفق بين شعارات الطموح المرفوعة، والإمدادات الشعبية المقطوعة؟
لذلك، نريد، من هذه الكلمة الصادرة من الأعماق، والموجهة إلى قادتنا وكل من يحمل هاجس البناء الوطني، من الإخوة والرفاق أن يستخلصوا الدروس، وأن يغسلوا العقول والنفوس، وأن يعملوا على رفع الهامات والرؤوس.
ولو كان لي من الأمر شيئا، لبادرت إلى تجاوز النتائج المرصودة، والإقبال على إعادة العملية، لتحقيق المطالب الموعودة، وتجسيد الطموحات المعهودة.
وإن من الصراحة المرغوبة، والنوايا المطلوبة، أن نعيد النظر في هذه التجربة، ما دامت قد أنتجت، نتائج مقلوبة.
ذلك أن نسبة النجاح لا تقاس بعدد المصوتين من المشاركين، وإنما بعدد المجندين من المواطنين، مهما تكن قناعاتهم الإيديولوجية، وانتماءاتهم الحزبية.
إن البقاء لن يكون إلا للأصلح، والأنفع، والأنفع والأصلح لا يكونان إلا إذا حظيا بإجماع الأمة، وعلو الهمة، والنأي عن كل ما من شأنه أن يمس بالذمة أو يجلب الغمة.
إن وثيقة كالدستور، ينبغي أن يتعاون في إعدادها كل المخلصين من ذوي الكفاءات، والطيبين من ذوي الانتماءات، بدء بالمؤمنين، وانتهاء بالعلمانيين، وكل ذلك في تعفف دون تطرف، وفي علو دون غلو، فمصير الأمة ينبغي أن يتميز بكل أنواع الطهر والسمو.
ولا أريد أن أخوض في سلبيات الدستور المنظور، فقد سبق في مناسبات عديدة، أن بينا، بأن النص فيه الكثير من الأحكام القابلة للتأويل، والتعليل، والتعطيل، وهو لا يتجه إلى حاكم جزائري بعينه، بل إنه ينبغي أن يكون صالحا لأي حاكم يحظى بثقة الأمة، مهما تبدلت الأزمنة، وتعاقبت الحكومات.
ينبغي أن يتسلح شعبنا بالأمل في المستقبل السعيد لدولته، فبالأمل يمكن تعبئة الجماهير، والالتفاف حول المبادئ لا الأشخاص من أجل التغيير والتطوير والتعمير.
ما الذي ينقصني ما دام عندي الأمل
ما الذي يحزنني لو عَبَس الحاضر لي
وابتسم المستقبل
أي منفى بحضوري ليس ينفى
أي أوطان، إذا ارحَلُ لا ترتحلُ
أنا وحدي دولة ما دام عندي الأمَلُ
دولة أنقى وأرقى وستبقى حيث تفنى الدول
(أحمد مطر)
فسواء فيما يخص البند الإسلامي الذي يحكم سواد شعبنا، والذي يحتاج إلى مزيد من التحديد، والتدقيق، والتعميق.
وسواء ما يتعلق بحرية العبادة، أو حيادية المدرسة، أو مفهوم اللغة الوطنية، أو الفصل بين السلطات، على سبيل المثال لا الحصر، إن هذه المواضيع كلها، ذلت تبعات خطيرة وقضايا ذلت أذناب طويلة.
لذلك بات ضروريا، من أجل قدسية الوحدة الوطنية، أن ندوس على بعض الشكليات وأن نغرس ريشة قلمنا، في دعاء قلوبنا ودموع عيوننا، كي نضخ أوكسجينا جديدا في هذا الدستور، ولا نلتفت إلى من يصطادون في الماء العكر، أو الذين يعكرون الماء ثم يصطادون فيه.
سواء عند هؤلاء، وهؤلاء، المهم أن نعيد تعبئة الشعب الجزائري بمختلف فئاته، فيُقبل على الاقتراع، يحدوه الحب في قيادته، والأمل في ازدهار سيادته.
إن الدرس القاسي الذي، ألقاه شعبنا على العالم، وواجه به قيادتنا الجديدة وهي في خطوات حكمها الأولى، إن هذا الدرس لجدير بالحفظ، وأن نستخلص منه كل الدروس بالطول وبالعرض، بحيث يصبح حافزا لنا، على إعادة القيام بما هو منوط بعاتقنا من واجب وفرض.
فيا قومنا! تحلو بمزيد من الشجاعة، وواجهوا ضمائركم بكل جدارة وقناعة، أعلنوا للعالم أجمع، أن العيب ليس أن نتعثر أو نسقط، ولكن العيب كل العيب، أن نتمادى في العثرات أو نبقى ساقطين.
أعيدوا الأمل لشعبكم بتجديد السعي والعمل، وافتحوا آذانكم، وضمائركم وعقولكم، وقلوبكم، لما يلقيه شعبكم من دروس، وأحسنوا الإصغاء لدرس الشعب فالحكومات تزول، ولكن البقاء للشعب فهو الأدوم، وهو الأقوم، وهو المنهج الأسلم.