نقاش حول تعديل الدستور: حياد المدرسة يبعدها عن وجهتها الصحيحة
بقلم الدكتور عبد القادر فضيل
الخطأ الفكري والسياسيّ والتربويّ الذي ظهر في مشروع تعديل الدستور، والذي قرأناه في النّصوص، وهو الخطأ الذي لم ينتبه إليه المراجعون الذين عكفوا على إجراءات التعديل، وهو ما يتعلق بمضمون المادة 68 من الدستور التي تنص على الحق في التربية والتعليم، والتي تشرح الحقوق الأساسية المرتبطة بالمبادئ العامة التي تحكم المجتمع الجزائري.
والنص الذي يتحدث عن الحق في التربية مبدأ أساسي ركز عليه الدستور، ولكن الصيغة التي قدم بها جعلته بعيدا عن روح الدستور وعن أهدافه، لأنه طُرح طرحا غريبا ليس له أساس، فالنقطة المتفرِّعة عن المادة 68 هي التي تبيّن مدلول هذه الصيغة وتشرحها ونصها هو: تسهر الدولة على ضمان حياد المؤسسات التربوية وعلى الحفاظ على طابعها البيداغوجي والعلمي، ولكن الخطأ نلمسه في الجزء الأول من النص، فهو الذي يطالب الدولة أن تضمن حياد المؤسسات التربوية بحيث يجعلها غير مرتبطة بسياسة الأمة، وفكرة الحياد المنصوص عليها في بداية الفقرة هي فكرة غير مقبولة لأنها تُبقي المدرسة بلا وجهة تربوية، وهي التي اعتبرناها خطأ، ومع الأسف أن ممثل اللجنة الذي ناقش الفكرة في حصة تلفزيونية يعتبر حياد المؤسسات جانبا أساسيا في التعامل مع المدرسة، ونحن اعتبرناه خطأ، لأنه يجعل المؤسسة التعليمية محايدة لسياسة الأمة وغير مرتبطة بقيمها، وهي لذلك تطلب من الدولة أن تضمن حياد المؤسسات التربوية، والحياد يعني جعل المؤسسة غير مسايرة لسياسة الأمة وغير مرتبطة بها، وغير ملتزمة بما تفكر فيه، وغير متفاعلة مع ما هو أساسي في سلوكها الوطني، لأنها تصبح غير ملتزمة بالقيم التي تؤمن بها، وهذا الحياد يناقض توجُّهات الأمة ويخالف السياسة الوطنية، وهنا نتساءل ما الغاية التي تجنيها التربية من هذا الحياد؟ لا نجد الجواب، لأنه لا توجد غاية محددة، ولكنه يفسح المجال لقبول المناهج المتحرِّرة والاتجاهات المسايرة للتفتح وحرية الرأي، فالحياد يفرض الحجر على المبادرات المدرسية.
إن مضمون هذه الفقرة هو الخطأ الذي كنا ننتظر تصحيحه، لأنه إشكالٌ فكري سياسي وتربوي لا يقبله الوطنيون المؤمنون بمبادئ الوطن، فالمطلوب من المؤسسات التربوية -حسب هذا النص- أن تكون المدرسة مغايرة في سلوكها الفكري والسياسي، لما تسير عليه الأمة وبعيدة عن القيم التي يؤمن بها الوطن، وهذه النتيجة لا يقبلها أحد، لأن ما تسير عليه الأمة هو ما يجب أن يتبنَّاه النظام التربوي وتدعو إليه سياسة التعليم، فالحياد يجعل المدرسة تقبل أي برنامج تعليمي يتلاءم معها. وما يجب قوله هنا هو أن المدرسة وسيلة الأمة في بناء ذاتها ووجهتها السياسية في تحديد مبادئها وأفكارها، لا يجوز الحجر على مبادراتها لأن حيادها يعني عدم انحيازها إلى هوية الوطن ومبادئه ومقوماته.
وقبل أن أستمر في طرح الإشكالات التي تفرضها فكرة الحياد يجب توضيح علاقة التربية بالسياسة، فالسياسة هي أساس التربية ووجهٌ من وجوهها، إذ لا يمكن أن تتناول التربية جوانب حياتية في المجتمع لا تتصل بالسياسة وبالأفكار الملخصة للسياسة التي تتبعها الأمة، لأنَّ الموضوعات التي تعالجها التربية وفق إرادة المجتمع هي موضوعاتٌ سياسية في الأساس والسياسة التي أقصدها هي ما يعيش في أعماق الأمة من قيم وأفكار لها ارتباط بالفكر السياسي أو بالأمور التي تعالج شؤون سياسة البلد واتجاهاته وما تفكر فيه الأمة وتؤمن به وتطرحه ضمن آرائها المحددة لشؤون الحياة، هذا هو المضمون الذي يعالجه النظام التربوي، إذ لا يمكن أن يقدِّم النظام التربوي للمتعلمين أمورا بعيدة عما تفكر فيه الأمة، وإذا كان هذا هو مدلول السياسة فلا يمكن أن يكون برنامج المؤسسة محايدا، فالحياد يفرض عليها أن تقدم أفكارا لا ترتبط بحقيقة الأمة وهذا ما يجعل المؤسسة غير ملتزمة بروح هذه السياسة، وهذا يفرض أن تكون اتجاهات المدرسة في جانب وما يقدَّم للمتعلمين في جانب آخر، والناس الذين يطالبون بإبعاد السياسة عن المدرسة أو إبعاد المدرسة عن السياسة أمثال أعضاء لجنة مراجعة الدستور، هؤلاء يقصدون السياسة التي تترجم أفكار الحزب واتجاهاته الإيديولوجية، (أظن هذا) ولكن الأفكار التي تنشرها الأحزاب أو تفكر فيها بعض الاتجاهات لا تُعبِّر كلها عما يلائم ما يعيش في أعماق الأمة، أما السياسة التي هي جانب من التربية والتي تعبِّر عن قيم الأمة وثوابتها ومبادئ تفكيرها ووجهتها الحضارية التي تحرِّك اهتمامات الأمة، لا يمكن أن تكون المدرسة بعيدة عنها أو محايدة لها، وإلا تصبح المدرسة غير وطنية وغير منتمية إلى الوطن، وهذا ما ينبغي تصحيحُه.
وتصحيحُه يجب أن ننطلق فيه من الحقيقة التي ينبغي أن لا يجهلها المسؤولون في الدولة، وهذه الحقيقة هي: أن التربية سياسة أمة وليست سياسة قطاع، ومسؤولية دولة وليست مسؤولية وزير، والعمل بهذه الحقيقة يفرض على المسؤولين أن يراجعوا تفكيرهم، ويفكروا في السياسة التي يجب أن تحدَّد للعمل بها، السياسة التي لا يجوز أن تبتعد عنها المدرسة وهذه السياسة لا يحددها الوزير، ولا الحكومة، ولا البرلمان، ولا لجان الوزارة، إنما تحددها هيأة عليا تابعة للدولة، هيأة يسند إليها التفكير في الجانب السياسي للتربية والذي يوجِّه الفعل التربوي، ويحدد السياسة التي ينبغي أن تسلكها الوزارة، هذا هو المطلوب، وهذه الهيأة يجب أن يُحدثها القانون في شكل مجلس أعلى للتربية يكون بجانب الوزارة ويحدد لها السياسة التي يجب أن تُتبع، وما نعيشه اليوم هو أن الدولة تخلت عن جانب من مسؤوليتها في هذا المجال، وتركت الأمر للمسؤولين الذين يسيّرون شؤون الوزارة، هم الذين يقرِّرون ما يلائم أفكارهم وقناعاتهم، حتى ولو كان الذي قرروه ليس محل اتفاق، وهذا من الأخطاء التي أصبح العمل جاريا بها منذ سنوات، منذ غياب الهيأة التي كانت مكلفة بالتوجيه التربوي.
لا ريب أنّ المطالبين بحياد المدرسة لا يستوعبون حقيقة السياسة التربوية، فهم لا يعتبرون الحياد خطأ، بل يعتبرونه جانبا مقبولا في التعامل مع المدرسة. وهذا ما أكده الناطق باسم اللجنة المكلفة بمراجعة تعديل الدستور. ولهذا لا يعتبر حياد المدرسة خطأ في التعامل مع النظام التعليمي لأنه ينظر إلى المدرسة على أنها مجالٌ معرفي علمي له ارتباط بالمنظومة التربوية التي تتولى الحكومة مسؤولية الإشراف عليها، ومتابعة أفكارها وأساليب عملها، فهي التي تضع الإطار القانوني الذي يحول دون نشر الأفكار المخالفة لاهتمامات المجتمع.
الحكومة هي الساهرة على متابعة ما يجري في المنظومة التربوية، وعلى ما يقدَّم في المناهج، فالحياد – كما تم شرحه من طرف الناطق باسم اللجنة المكلفة بمراجعة تعديل الدستور- يدفع إلى رفض الأفكار والاتجاهات التي تصدر عن بعض الأساتذة والتي لا تلتزم بما تنص عليه المراجع الرسمية، فالحكومة لا تسمح بتلقين ما يطرحه البعض من أفكار واتجاهات تخالف ما يريده المجتمع، فالحياد يُبعِد المدرسة عن توجيه اهتمامها إلى ما تتضمَّنه المناهج التي لا ترضي كل الاتجاهات، ولا تلتقي مع التوجُّهات الواردة في القانون التوجيهي للتربية. وهنا سؤال نطرحه: هل يجوز للمدرسة أن تتبنَّى تفكيرا غير التفكير الذي تؤمن به الأمة ويلتزم به الوطن؟ إنَّ هذا يناقض مبادئ ثورة نوفمبر ويخالف التوجه الإسلامي الذي حُدد في المناهج، ويتجنب ما ورد في القانون التوجيهي للتربية الذي يحدد الأسس التي تتبناها المدرسة.
إننا نجد القانون يُلحُّ على تكوين جيل متشبِّع بمبادئ الإسلام وبقيمه الروحية، كما يلحُّ على المبادئ التاريخية التي تسعى إلى ترسيخ القيم المؤصِّلة لتوجُّهاتنا، هذا هو التفكير الذي نلمسه في توجهات الأمة، فالعمل بالحياد يجعلنا لا نلتفت لهذه التوجهات، فكيف نطلب من المؤسسات أن تكون محايدة للسياسة التربوية المنصوص عليها؟ نوجه السؤال للمطالبين بالحياد، فما هي القيم والأفكار التي تعوض بها المؤسسات ما تعيشه الأمة إذا كانت تحيد عنها؟ لا شيء، فالذين صاغوا هذه المادة لا أظنهم يريدون أن تعيش المدرسة قيما أجنبية أو توجهات فكرية غريبة عن المجتمع، اللهم إلا إذا كانوا ينظرون إلى الجانب السياسي على أنه جانب مشبَّع بالناحية الأيديولوجية والاتجاهات الحزبية، وحينئذ لا تجد المدرسة ما تعوض به تفكير الأمة وقيم الوطن.
إن الخطأ الذي شرحناه بخصوص فكرة الحياد لم يصححه الأستاذ بن طيفور في نقاشه، إذ لم يتناول في مناقشته الجانب الذي تم فيه إهمال ذكر الهوية الوطنية الخاصة بالمؤسسات التربوية (المدرسة)، ويلاحظ هذا الإهمال في نص المادة 68 في الفقرة الرابعة، ففي هذه الفقرة يذكر النص مسؤولية الدولة اتجاه ضمان حياد المؤسسات، ولكنه حين يضيف إليها: (وعلى الحفاظ على طابعها البيداغوجي والعلمي) يهمل الطابع الوطني، فكيف يكون إهمال الصفة التربوية الأساسية، وكيف نذكر الطابع البيداغوجي والعلمي للمؤسسة ولا نذكر الطابع الوطني؟ أليس هذا إهمالا لذكر الهوية؟ هذا جانبٌ تم فيه إهمال الاهتمام بالهوية التي يتحدث عنها الأستاذ ويذكر موقف اللجنة، ويعلن أنه يتحدى من يثبت له جانبا أهمِلت فيه الهوية، وهذا جانبٌ واضح لا يمكن أن ينكره.
وحين نتتبَّع الفقرات الخمس التي شرحت المادة 68 من مسودّة التعديل الدستوري لا نجد فيها ما يعمق الاهتمام بهوية المدرسة. إن هذا الشرح هو الذي يجعل المدرسة التي تناولنا الحديث عنها بأننا نصفها: بأنها مدرسة في الجزائر وليست مدرسة جزائرية، والفرق بين المدرستين واضح. وما ذكره الأستاذ ممثل اللجنة حين أكد أن الحكومة تمارس مسؤوليتها في الإشراف على ما يجري في المنظومة التربوية فهي التي تتابع وتبدي مواقفها، أعلق على قوله هذا وأقول: إن هذه المسؤولية غير صحيحة، فالحكومة محايدة لما يجري في واقع المنظومة التربوية، والدليل ما عشناه في السنوات الماضية حين قررت وزارة التربية بعض الأفكار وهي أفكار مخالفة لتوجهات الأمة، ولم تحدد الحكومة موقفها من هذه القرارات، رغم أنها غير ملائمة للسياسة المتّبعة ولم يوافق عليها أهل الاختصاص، ولم تعارض الحكومة ما فكرت فيه الوزارة وأعلنت عنه. وأذكر بعض هذه الإجراءات: الدَّعوة الملحَّة إلى إدراج اللهجات الدارجة في التعليم، والقرار الخاص بحذف البسملة من الكتب المدرسية، ثم القرار الخاص لمراجعة المناهج وإدراج فكرة الجيل الثاني ونشرها في الكتب، هذه الإجراءات والقرارات لم تدرسها الحكومة ولم تقدِّم رأيها، ومع ذلك تمَّ تنفيذ ما قررته الوزارة ولم تعارضه الحكومة.
وهناك جانبٌ تم طرحه في كتاب السنة الأولى من التعليم المتوسط تناولت فيه الوزارة موضوع الديمقراطية في برنامج التربية المدنية واعتمدت في شرح المضمون الاستفتاء الذي أجري عام 1962 والذي نظمته الإدارة الفرنسية، هذا الشرح رفضناه وعلقنا على الموقف الغريب الذي وقفته الوزارة من الاستفتاء الذي أجري عام 62، وبيّنا الجانب السياسي المرتبط بتعليمات الإدارة الفرنسية في موضوع الاستقلال، والدرس الذي علقنا عليه وبينا بأنه غير ملائم سياسيا وتربويا، ومع ذلك لم يُحذف الدرس ولم يُصحَّح، وهو موجودٌ في الكتاب إلى حدِّ الساعة.
هذه الأمثلة التي ذكرت يؤكد أن الحكومة لا تمارس مسؤوليتها في ميدان متابعة ما يجرى في المدرسة، ولهذا قلنا إن فكرة الحياد تجعل المدرسة بعيدة عن سياسة الأمة ولا تستطيع الحكومة أن تحدِّد الجانب السياسي ومبادئ التوجُّه التربوي لأن الموضوع يتطلب تشكيل هيأة متخصصة يسند إليها الأمر وهذا ما طالبنا به.
ومما يؤسف له أن قطاع التربية قطاعٌ كبير وهام، ولا يوجد بجانبه هيأة توجّه تفكيره وتحدد وجهته وتضبط رؤيته وتثري نظامه.
وأودّ في الأخير تقديم هذه الإضافة المتعلّقة بمراجعة صياغة النقاط الشارحة للمادة 68 من مسودّة تعديل الدستور.
النقطة الأولى: الحق في التربية والتعليم مضمونان تعوض كلمة (مضمونان) بكلمة مضمون.
يصحح الجزء المتمم: تسهر الدولة باستمرار، نضيف: على توفير هذا الحق وعلى ضمان أدائه وتحسين جودته.
النقطة الثانية: التعليم العمومي مجاني تضيف إليها: في كل المستويات، قبل كلمة مجاني.
النقطة الثالثة: التعليم الأساسي إجباري، يحسن إعادة الصياغة، نقول: مدة التعليم الأساسي تسع سنوات وهي إجبارية، والدولة ملزَمة بتوفيرها للجميع.
النقطة الرابعة: تسهر الدولة على ضمان حياد المؤسسات التربوية تحذف كلمة (حياد) وتُعوَّض بكلمة (سير): تسهر الدولة على سير المؤسسات، نضيف إليها: وفق المبادئ السياسية التي تسير عليها الأمة، وتكمل الباقي بإضافة وعلى الحفاظ على طابعها الوطني والبيداغوجي والعملي.
النقطة الخامسة: تسهر الدولة على تحقيق تكافؤ الفرص وضمان التساوي في الالتحاق بسنوات التعليم.
النقطة السادسة (تضاف): تسهر الدولة على توفير التكوين المهني للراغبين في اكتساب مهارات عملية وتخصصات مهنية، على أن تكون اللغة التي يمارَس بها التكوين هي اللغة العربية.