بعد الشلل الذي أورثنا الكلل والملل، وبعد العدوان الكبير الذي شنّه علينا وباء الكورونا الخطير، فمات منا الكثير، وقصم ظهر النّاقة والبعير، وأبكى الأم الثكلى، ويتّم الطفل الصغير.
أفسدت كورونا كوفيد 19، حياتنا الاجتماعية، وذبذبت تركيبتنا العائلية، وأصابت في الصميم هياكلنا الاقتصادية.
فهل يمكن القول، في ضوء التباشير المعلنة عن ميلاد الأمل، والتشمير عن سواعد الجد والعمل؟
لقد حنّت الأقسام الدراسية إلى طلاّبها، واشتاقت المصليات الزكية إلى عبّادها، والولائم والجنائز إلى روادها، أبعدَ العسر يسرا؟.
إنّ الأمل معقود –بعد الله – على المواطنين والمواطنات، فالجميع مدعوون إلى استخلاص الدروس، والعِبَر، والاعتبارات.
ورُب ضارة نافعة، وكما يقال، لقد تعلمت الحكمة من المجنون، وأدب الكلام من الثرثار، والإيمان من الملحد، وجازى الله الشدائد كلّ خير.
فمن الحِكم التي ينبغي أن نستوعبها، أنّ الابتلاء جزء من سنن الحياة، فلا صحّة تدوم، ولا علّة تخلد، ومن كان يظنّ أنّ وباء فتاكا -في حجم الكورونا – سيحيق بالإنسانية قاطبة، على اختلاف أقاليمها، وتباين مستويات تـنميتها، وتنوع تطورها العلمي.
فشلت الحضارة العلمية –إذن – في حماية الإنسان، وحتى في إنقاذه ممّا حل به، ورأينا من هم في قمة المناهج المادية، يلجأون إلى قانون السماء، بعد فشل قوانين القضاء.
لذا فإنّ شعبنا الجزائري المسلم، هو قبل كلّ الشعوب، مدعو إلى إخضاع تجربة الجائحة إلى التحليل، والتعليل، في ضوء الفهم الصحيح لقوانين الله، والتطبيق السليم لتعاليمه.
لقد كتب الله علينا الطهارة بأشمل مدلولاتها، طهارة البدن، وطهارة القلب، وطهارة العقل، ومجملها طهارة السلوك، فالطهارة بهذا المعنى، هي أدق وسيلة للوقاية والحماية، لأنّ تحصين الذات لا يأتي إلاّ من الطهارة.
ومن نافل القول، إنّنا مدعوون اليوم أكثر من أي وقت مضى، كمسلمين، أن نتشبث بديننا، لنستلهم منه قيم تحصين الذات وحمايتها، لنضمن تحصين وحماية الآخر من أي أذى.
كما أن من المسلَّمات التي يجب التبشير بها، الوعي بخطورة الداء، وسوء عواقبه، فكم من ضحايا هذا الوباء، ذهبوا بسبب الاستهتار بإجراءات الوقاية، بل وعدم التسليم بوجود وباء اسمه وباء كوفيد 19.
نعود إذن، لنؤكد على أنّ وقاية المجتمع تمرّ حتما من بوابة الوعي بتشخيص الداء، فذلك هو نصف الدواء.
ومن الدروس المستخلصة أيضا من هذه التجربة القاسية، حسن التنظيم، ودقّة الانضباط في الدين والدنيا معا، فالجامع والجامعة، وقد ظلا مغلقين لفترة طويلة من الزمن خوفا من تفشي الداء، ينبغي أن يكونا وفيين لطبيعتهما، وهما الوعي علميا، والسعي عمليا، حتى نجعل منهما مصحتين للجسم والعقل، ضد كلّ أنواع الأوبئة المادية والمعنوية معا.
إنّ الأستاذ، والإمام، والطالب، والمأموم، كلّهم مدعوون إلى نقل قيم الجامع والجامعة، إلى البيت، وإلى السوق، وإلى كلّ مجالات الحياة، لكي نغدو جامعيين ومسجديين في أخلاقنا بالبيت، وعلى مستوى كلّ مجالات الحياة.
على أنّ هذا النوع من الإجراء، على أهميته، لن تُكتب له النجاعة ما لم يتوج بالحكم الرشيد، والاقتداء السديد، ذلك “أنّ النّاس على دين ملوكهم“، وكم علمتنا التجارب، أنّ الملوك، إذا لم يلهَموا الرشد، يفسدون كلّ قرية إذا دخلوها، ورمزية الملك، لا تعني الملك المتوج بتاج الحكم فقط، وإنمّا تعني كلّ من تقلّد مسؤولية في الأمة.
ويمكن أخذ العبرة بالدرجة الأولى من الجزائر ذاتها، فقد وهب الله بلادنا كلّ خيرات الدنيا، من فوق الأرض ومن تحتها، “ماء، وجنات وأنهار”.
يا سائلا عن حسنها، إن كنت ذا نصف
قل جنة الخلد، فيها الأهل والولد
إنّ هذه الجنة النموذجية في العالم، قد سلط عليها عصابة من النّاس، لا همة، ولا ذمة، ولا تدين، ولا تبين، فعاثوا في الجزائر فسادا، حيث أهلكوا النسل والحرث فحولوها من دولة تُستَجدى، إلى “دولة تَستَجدي”، ولا يظلم ربك أحدا.
إن أمتنا يصدق عليها قول شاعر النيل حافظ إبراهيم حين قال:
أنا لولا أن لي من أمتي خاذلا، ما بت أشكو النوَبا
أمة قد فت في ساعدها بغضها الأهل وحب الغربا
وهي والآلام تستهدفها تعشق اللهو، وتهوى الطربا
إنّ مسؤولية الحاكم إذن، هي مسؤولية عظيمة عند الله، وعند النّاس، فإذا فسد الحاكم، ولم يكن عدلاً، مشى فساده، وسوء عدله في الجميع، فانعكس على المواطنين والمواطنات، في شكل تأزم، وعنف، وتمرد، وهو ما يؤدي بالخراب كما يقول ابن خلدون.
وخلاصة ما يمكن الانتهاء إليه، من كلّ هذا هو أنّ مسؤولية حماية المجتمع، وخلق الحافز فيه، للأمل والعمل، يكمن في تعاون الحاكم والمحكوم معًا، على إقامة المجتمع الفاضل الذي تسوسه الحكمة، ويسوده العدل، وتشبع فيه الحرية، وينبض بالسعي والوعي.
إنّنا في ضوء المعطيات كلها التي تتيحها لنا تجربة الجائحة بآلامها ومعاناتها، نؤكد على ضرورة التزود بالأمل والعمل، فقد دالت دولة اليأس والبأس، ودقت ساعة الأمل والعمل.
فيا بني وطني ذكورا وإناثا؛ إنّ الوطن الجزائري، من عمق معاناته السحيقة يستصرخكم، أن هبوا إلى التعبئة الصادقة، والهبّة الحاذقة، لنصلح ما أفسدته العصابة، إنّنا نملك كلّ مقومات النهوض والبقاء، بشرط أن نمتثل لقيم الدين، والتسامح، والحب، والإخاء.
﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾[سورة آل عمران/ الآية 139].