المجد لله، ثم المجد لمن؟

بقلم الدكتور عبد الرزاق قسوم

شعار رفيع المبنى، قدستى المعنى، هو الذي خرج به على الناس، ذات يوم من أيام التاريخ[1] ، العالم المصلح الثائر، الإمام عبد الحميد بن باديس.

فقد تغنى، بعزةٍ وافتخارٍ، بالإسلام والعروبة، كما هو ديدنه دائما، فقال في مستهل قصيدته المشهورة:

المجد لله ثم المجد للعرب               

                   من أنجبوا لبني الإنسان خير نبي

ونشروا ملة في الناس عادلة  

                     لا ظلم فيها على دين ولا نسب

وبذلوا العلم مجّاناً لطالبه  

                   فنال رغباه ذو فخر وذو نسب

وحرروا العقل من جهل ومن وهم  

                        وحرروا الدين من غش ومن كذب

ذلك كان شأن العروبة، عندما كان أهلها يفتحون الحقول والعقول، على هدى من الله وبسنة الرسول، أي عندما تحولوا من رعاة الإبل والغنم، إلى بناة الدول والأمم، على أساس أنبل المبادئ وأعظم القيم، وكانوا يبشرون، بتعاليم أفضل الأنبياء، النبي الذي ﴿ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ﴾ [سورة الأعراف، الآية: 157].

غير أن العروبة، هذا المعنى الحضاري الأسمى، فقد اليوم جوهره ومعناه، وطار منه مقصده ومبتغاه، ففقدت العروبة مجدها، وشهدها، وإشعاعها وإيقاعها وصارت لعنة وعذابا في أفواه الشعراء كما يقول نزار قباني:

أنا يا حبيبة متعب بعروبتي

             فهل العروبة لعنة وعذاب؟

ويقول احمد فؤاد مطر عن بيروت:

قفوا حول بيروت

                  صلوا على روحها، واندبوها

وشدوا اللحى وانتفوها

                  لكي لا تثيروا الشكوك

وسلّوا سيوف السباب لمن قيّدوها

                 ومن ضاجعوها، ومن أحرقوها

لكي لا تثيروا الشكوك

                ورصّوا الصكوك

على النار كي لا تطفئوها

      ولكن خيط الدخان

سيصرخ فيكم، دعوها

       ويكتب فوق الخراب

إذا دخلوا قرية أفسدوها…

يا لله للعروبة، التي فقدت بريقها، وضيّعت طريقها، منذ صار حكامها يستبدون بالعلماء، الشرفاء، ويسجنون المثقفين الأحرار بسبب الآراء، ويحاطون ببطانة السوء، من المرتزقة والعملاء.

أفرغت العروبة من مقصدها وجوهرها عندما صار الجيش العربي يحيد عن مبتغاه، فيحشد قوته ليواجه أخاه، نصرة للعدو المشترك، وحماية لمأربه ومرماه.

أمن العروبة أن يطلق الحاكم العربي النار على مواطنيه، ويقف جيشه مكتوف الأيدي أمام أعدائه ومغتصبيه؟

وهل من العروبة، أن يجهر العاقون من أحفادها، بالعقوق لقيمتها، والنيل من شيمها، والتقزز من الانتماء إليها؟

لقد تجرأ العرب المنسلبون، حكاما ومحكومين على إضافة النقطة إلى عينهم، وفيها كل السر، وفيها كل الشر.

فيدافع العداء للعروبة، يحتل جيش عربي حمى بلد عربي آخر، فيزرع في أرضه القتل والدمار، ويذيق شعبه ألوانا من العار والشنار.

يحدث هذا في أكثر من جزء من أجزاء الوطن العربي، حيث امتلأت، بالأبرياء، السجون، وأهينت الشوارب والذقون، وأذيق الأحرار كل أنواع الخسف والهون، وغفلوا عن قوله تعالى:

﴿ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ ﴾ [ سورة البقرة، الآية: 156].

إن مأساة عروبتنا –اليوم- أنها انتقلت من اليسر إلى العسر، ومن المد إلى الجزر، ومن الإيمان إلى الكفر، ومن الخير إلى الشر.

 وهذا ما يفسره في تونس الشنآن داخل البرلمان، وفي ليبيا،  العدوان وما يتبعه من غليان، وفتنة الإديولوجيا وعنصرية الألوان التي تحدث في السودان، وحرب الخصام والانتقام،  التي تدور منذ أعوام في بلاد الشام، وآخرها الانفجار والدمار والانتحار، الذي راح ضحيته لبنان الأحرار.

لطالما أسررنا وأعلنا، وفسرنا وبينا، بأن ما تعانيه أمتنا، عدوان داخلي على الذات سببه حرب المخابرات، وتصادم مصالح الحكومات وإعلان العدوان على المعتقدات، واستئصال الهويات والكفر بالأصالة في الانتماءات.

وثالثة الأثا في ما حدث في لبنان، أن حجم المأساة اللبنانية، أمر يشيب له الولدان، ويندى له جبين الصبيان، وتثور لهوله الحيتان في الشطآن.

كيف نعلل أسباب هذا الاضطراب؟

أوطن بلا حماية، وقواعد بلا رعاية، وخزان انفجار بلا وقاية؟  وهذه هي النهاية.

أيظن القائمون على الشأن اللبناني، بأن لبنان محاط بالملائكة الطيبين، وأن صك أمان قد منح له، ليكون من الآمنين، وأنه قد عقد حلفا مع الشياطين، فيعيش مطمئن المرفإ، والمطار، والمتساكنين؟ عجبت لقومي والله!

والآن وقد وقع الفأس في الرأس، وقتل وفقد، وأصيب الآلاف من الناس، من يعوضنا هؤلاء الضحايا؟ وماذا نقول للتاريخ عن حجم الرزايا؟

يقال أن اللوم بعد القضاء بدعة، وأن محاولة إلغاء المسؤولية على مجرد المؤامرة الخارجية، هي أبشع خدعة..

وما نريده اليوم، هو أن يهب الوطن العربي بالرغم مما يعانيه من شتات وتمزق، وما يحس به من جراح وأتراح، أن ينهض لنجدة لبنان، وإسعافه والتضامن معه بالكساء، والغذاء، والغطاء، والدواء، لتضميد جراحه، وتخفيف أتراحه.

وعسى أن يكون دوي الانفجار، وما أحدثه من أضرار، عامل إيقاظ للضمائر من هول الاندحار والانكسار،  ليعي الجميع خطورة الدرس،  فيعيدوا لحمة العروبة المخروبة، إلى الالتئام والالتحام، وأن يتناسى الجميع حكاما ومحكومين، صراع التكتلات المشبوهة،  فيدركوا أن القوة في رص الصف، وتوحيد الهدف والكف عن الدوران واللف.

وهكذا نستطيع أن نعيد تحقيق حلم الرواد العلماء الأولين من أمثال العالم الجزائري، عبد الحميد بن باديس، بأن المجد لله، ثم المجد للعرب.. وصيحة وداعه قبل خروجه من الدنيا:

 فإذا هلكت فصيحتي تحيا الجزائر والعرب.

[1]  ابن باديس: قصيدة نشرت بمجلة الشهاب شهر يونيو 1938

Exit mobile version