– عبد الحميد مهري والمشروع النهضوي العربي
لم يكن انتقال سي عبد الحميد مهري من موقعه كأمين عام لجبهة التحرير الوطني الجزائرية عام 1996، الى موقعه كأمين عام للمؤتمر القومي العربي 1997، مجرد تدرج طبيعي في مهمات الرجل الكبير، بقدر ما كان تعبيرا عن تكامل مشروع التحرر الوطني الجزائري الذي كان مهري من رواده مع مشروع النهوض الحضاري العربي الذي حمل مهري راياته تأكيداً على مقولة شغلت حياة القائد الوطني الكبير حيث كان يمثل الوطنية الجزائرية في إطارها القومي، تماما كما يمثل العروبة الحضارية الجامعة في قلب حركة التحرر الجزائرية.
كان سي مهري يقول في معرض تفسيره لانتصار الثورة الجزائرية عام 1962، بعد محاولات ثورية متواصلة ضد الاستعمار الفرنسي، إن من أهم عوامل انتصار ثورة الفاتح من نوفمبر 1954 هو الاحتضان العربي الشعبي والرسمي لها، منذ أيامها الأولى، وهو احتضان قاد لمواجهات عنيفة على مستوى الوطن العربي الكبير أبرزها دون شك العدوان الثلاثي على مصر عام 1956.
ولعل أبرز ما عزز لدى مهري هذه الرؤية القومية العربية هو أنه أمضى في المشرق العربي سنوات عدة ممثلا فيها للثورة الجزائرية، فلاحظ كيف أن إجماعا عربيا تحقق حول ثورة الجزائر، وأن صراعات بينية حادة بين حكومات عربية كانت تتراجع حدتها حين يتعلق الأمر بدعم ثورة الجزائر.
لقد كان سي مهري – رحمه الله – بين السياسيين الثوريين مدركاً لأهمية النضال في ضوء مشروع محدد سواء كان المشروع وطنياً جزائرياَ، كما هو حال الثورة الجزائرية، أو عربياَ قومياً كما هو حال المشروع النهضوي العربي الذي تأسس في ضوئه المؤتمر القومي العربي، والمؤتمر القومي ـ الإسلامي، والمؤتمر العام للأحزاب العربية.
في هذا الاطار شارك سي مهري منذ أواسط التسعينات في صياغة المشروع النهضوي العربي الذي بدأ العمل على صياغته منذ أيار/ مايو 1997 حتى شباط/ فبراير 2010، حين أطلق مركز دراسات الوحدة العربية هذا المشروع بعد 13 سنة من الندوات الصغرى والكبرى، وحلقات النقاش المنتشرة من مغرب الوطن الكبير الى مشرقه، وصولا الى مناقشات شملت المؤتمر القومي العربي نفسه، ومخيمات الشباب القومي العربي، والعديد من أطر العمل القومي العربي التي كان عبد الحميد مهري أحد أبرز قادتها ورعاتها.
إذا كان المجال، الآن، لا يتسع لعرض تفاصيل المشروع النهضوي العربي، فإنه من الضرورة استحضار عناوين هذا المشروع وعناصره، وأولها الحديث عن ضرورة النهضة وتجارب النهضة الأولى والثانية وتحليل أسباب وعوامل إخفاق مشاريع النهضة السابقة.
ثم ينتقل المشروع الى عناصره الستة، فيفرد فصلاً للتجدد الحضاري متحدثا عن معنى التجدد الحضاري وضرورته، والمداخل والوسائل المرتبطة به، وصولا الى نسق قيّم نهضوي يشكل أساسا لهذا التجدد الحضاري.
الهدف الثاني من أهداف المشروع النهضوي العربي يتحدد في الوحدة العربية وضرورتها، والعلاقة بين القومي والقطري، وفي المضمون الاجتماعي والديمقراطي للوحدة، وفي نمط نداء الوحدة.
الهدف الثالث في المشروع هو الديمقراطية وضرورتها، والعلاقة بينها وبين الشورى والديمقراطية كنظام شامل للحكم، وآليات تحقيق الديمقراطية وتعزيزها، والديمقراطية كنظام اجتماعي.
أما التنمية المستقلة، وهي رابع أهداف المشروع النهضوي العربي فقد أفرد المشروع فصلا كاملا للحديث عن ضرورتها ومفهومها القائم على الاستقلال والاعتماد الذاتي كصنوين، والتعامل الصحيح مع العولمة والمبادئ الناظمة للتنمية المستقلة وركائزها.
وحول العدالة الاجتماعية التي هي أحد أهداف المشروع النهضوي فقد تحدث المشروع عن ملكية وسائل الانتاج في منظومة العدالة الاجتماعية وعن منظومة سياساتها، وعن بعض آليات تعزيزها.
أما الهدف السادس والأخير لمشروع النهوض العربي فهو في الاستقلال الوطني والقومي؛ حيث تحدث المشروع عن استراتيجية الاستقلال الوطني والقومي، وتحرير الأراضي العربية، وتصفية القواعد العسكرية الأجنبية ومواجهة المشروع الصهيوني، ومقاومة الهيمنة الأجنبية بأشكالها المختلفة، وبناء القدرة الاستراتيجية الذاتية، ثم استراتيجية الأمن الوطني والقومي بما فيها استراتيجية الردع ومواجهة التهديدات غير العسكرية كالأمن الغذائي، الأمن المائي، الأمن البيئي، الأمن الاجتماعي.
وخُتم المشروع بآليات تحقيق المشروع من خلال تحديد القوى الاجتماعية والسياسية والوسائل النضالية، ونحو تجسيد المشروع عبر آليات النهضة ومؤسساتها وكيفية تجسيد المشروع النهضوي العربي.
إزاء هذه المعطيات والأهداف المتصلة بالمشروع النهضوي العربي، كان عبد الحميد مهري واحداَ من أبرز الذين ركزوا على الأمور التالية:
1- لا مقايضة بين الأهداف الستة للمشروع النهضوي العربي، ولا تراجع لأحد الأهداف لصالح الأهداف الأخرى. فالوحدة العربية بأي شكل من أشكالها (كونفدارلية، فدرالية، تضامن، تعاون، تكامل) لا يجوز أن تقوم على حساب الديمقراطية أو العدالة الاجتماعية. ولا يحق للديمقراطية أن تقوم على حساب الاستقلال الوطني والعدالة، ولا العدالة على حساب الديمقراطية والاستقلال.
فالمشروع كل مترابط، والعمل على إنجازه يتطلب نضالاَ لتحقيق كل الأهداف جنبا إلى جنب، بل ان كل تقدم نحققه على طريق أحد الأهداف يفتح الباب واسعا أمام تحقيق الأهداف الأخرى…
لقد كان مهري يدرك من خبرته الواسعة خطورة شطب أحد أهداف المشروع النهضوي العربي لصالح هدف آخر، مما يقود إلى فشل المشروع بأسره وتراجع منظومته.
2- إن إنجاز هذا المشروع يتطلب تعاونا وتكاملا بين كل القوى والتيارات والشخصيات المؤمنة بهذا المشروع، أيا كانت خلفيتها العقائدية أو الفكرية، قومية أو إسلامية او يسارية او ليبرالية ما دامت ملتزمة بعناوين المشروع الذي ساهم مفكرون وباحثون ينتمون إليها بإعداده.
لذلك سعى مهري الى ترجمة هذا التوجه من خلال حرصه على السعي لتحقيق لقاء بين كل التيارات الفاعلة في الجزائر لإخراجها من العشرية الدامية التي عاشتها.
3- إن تحقيق المشروع النهضوي العربي يتطلب نضالا وتضحيات على كل المستويات الفكرية والسياسية والثقافية والإعلامية؛ بحيث لا تبقى جماعة في المجتمع خارج السعي لتحقيق أهداف المشروع.
هنا كان مهري، وهو ابن الثورة الجزائرية، ورائد من رواد الكفاح الوطني الجزائري، يدرك أن تحقيق الاستقلال الوطني والقومي بكل أشكاله لا يتحقق إلا بمقاومة وطنية شاملة تجعل من كلفة بقاء الاحتلال ما يفوق كلفة خروجه… ولذلك كان مهري دائماَ في طليعة مساندي المقاومة الفلسطينية والعراقية واللبنانية سواء داخل الجزائر أو على مستوى الأمة كلها.
4- كان مهري يدرك أن الطريق لتحقيق الوحدة العربية يمر دوما بالتكامل والتضامن والتعاون بين أقطار الوطن العربي عموماَ وبين أقطار المغرب العربي خصوصا، لذلك كان يحرص على هامش اجتماعات المؤتمر القومي العربي على عقد اجتماعات للأعضاء المغاربة (مويتانيا، المغرب، الجزائر، تونس، ليبيا) بهدف تشكيل منتدى المغرب العربي كقوة ضغط لإحياء إتحاد المغرب العربي.
5- كان مهري يدرك أن تحقيق المشروع النهضوي العربي يعتمد بشكل خاص على شباب الأمة باعتبارهم “نصف الحاضر وكل المستقبل”، كما وصفهم يوما جمال عبد الناصر…. وكان يترجم هذا الإدراك باحتضانه لمخيمات الشباب القومي العربي التي تقام كل سنة في بلد عربي لتعزيز علاقات التعارف والتفاعل بين شباب الأمة.
وخلال عام 2006، وفيما كانت الحرب العدوانية الاسرائيلية مندلعة ضد لبنان ومقاومته، كان مهري يشرف بالتفصيل على المخيم السادس عشر الذي انعقد في الجزائر في صيف نفس العام، مؤكدا على مدى إايمانه بشباب الأمة ودورهم في حمل راية المشروع النهضوي العربي.
6- كان سي عبد الحميد مهري يدرك بعمق دور اللغة العربية في حماية الهوية العربية/ الإسلامية للأمة، وكان يتفاعل مع كل أخ من إخوانه يسعى للدفاع عن هذه اللغة في مواجهة المحاولات التي تسعى إلى طمسها في إطار مشروعها لطمس الهُوية العربية والإسلامية للأمة.
بل كان مهري يعتبر أن الطريق لصون المشروع النهضوي العربي يمر بالضرورة بالدفاع عن اللغة الأم التي ما اعتمدتها أمة من الأمم إلا وحققت نهوضا سريعاَ.
وفي الختام من الصعب الحديث من عبد الحميد مهري والمشروع النهضوي العربي دون الانتباه الى التلازم بين الشخص وبين المشروع، فقد كان المشروع النهضوي العربي هو مشروع حياة عبد الحميد مهري، تماما مثلما كانت سيرة عبد الحميد مهري تفصيلا دقيقاً لذلك المشروع.
الأستاذ معن بشّور
رئيس المؤتمر القومي العربي الأسبق