واقع الأمة .. بين عوامل التفرق و شروط التحقق! بقلم:د. أحمد بن نعمان
ويمكن حصر أهم المناهضين لهذا الوعي بالوحدة من داخل العالم الاسلامي ذاته ومن أعدائه الخارجيين في ثلاث اتجاهات أو فئات هي :
الفئة الأولى: غالبية الحكام و الساسة الذين يحتكرون لأنفسهم صفة (الوطنية) في الأقطار الإسلامية، وماعداهم يضعونهم أو يصنفونهم في عداد الأمميين و العملاء للخارج “ضد الوطن” و “ضد الشعب”، أي وطن وأي شعب ؟ وآخر من فعلها منهم ضد الشرعيّة كان في مصر العربية، و أول من فعلها قبله كان في السودان، ثم في الجزائر منذ أكثر من عشرين سنة، ضد الشرعية الشعبية و الاستقلال و الحرية، و الإدارة المدنية، و العدالة السلمية و الإرادة الشرعية… و يعود عداء هؤلاء الانقلابيين للإرادة الشرعية و الشعبية إلى اعتقادهم الخاطئ والمغالط بأن فكرة الوحدة و التوحيد أيا كان شكله وحجمه إنما هو عداء و مناهضة للوطن و الوطنية و المصالح العليا للأمة، و خطر على النظام السياسي الحاكم (الذي لا تتجاوز علاقته بالإسلام إحدى المواد المقحمة ظلما وبهتانا في الدستور شاهد الزور) و كثيرا ما يقع الخلط المتعمد هنا (عن قصد و سوء نية، وماكيافيلية فاضحة) بين ربط معاداة النظام السياسي الحاكم و الظالم، و معاداة الوطن القائم مع أن الفرق بين الاثنين واضح حيث يمكن للشخص أن يوالي الحاكم لأغراض مصلحية دون أن يكون وفيا للوطن (إن لم يكن معاديا لمصالحه العليا لصالح اعدائه في غالب الأحيان) كما يمكن في الوقت ذاته لمصلحين كبار (وطنيين و ديّنين) أن يناهضوا الحكام الجائرين نصرة للوطن و الدين، و لا علاقة ترابطية بين هذا و ذاك إلا تضليلاً و خداعاً و قلباً للمفاهيم و الأوضاع في ظل الخوف و الطمع و الجهل و الاستبداد و القمع و الفساد، و هو كله مضر بمصالح الأمة و الوطن و الخيرين الصالحين من العباد !
الفئة الثانية: العلمانيون (الدهريون) من أصحاب (البعث الدنيوي) الذين يكفرون ببعث الآخرة ويعتبرون الانتماء إلى الأمة الكبرى (الإسلامية) يعني خلطا للأوراق وإزدواجا في الولاء والوفاء بين أمتين، وكأنهما كيانان متناقضان، ولم يكونا في حقيقتهما أمة واحدة لم تغرب عن أرضها شمس الله لعدة قرون زاهية مشرقة من غرناطة و قرطبة إلى دمشق و بغداد!
والسبب في ذلك يعود عند أصحاب هذا الإتجاه إلى ضرورة حصر الانتماء و الولاء إلى الأمة العربية فقط ذات الدولة العلمانية (المفرغة من روحها الإسلامية) القائمة في اعتقادهم الخاطئ (كما قلنا) على أساس من وحدة القومية والثقافة و السلالة الواحدة و ليس وحدة القبلة و المصير و العدو المشترك و الحضارة و الرسالة الخالدة !
ونظرا لأن حدود القوميات العلمانية في الوقت الحاضر لا تعرف بحدود الديانات، فإن هذا الاتجاه العلماني قد وجد ذريعة لإخراج المسلمين ( غير الناطقين بالعربية) من دائرة الأمة، مدعما حجته تلك بما يلاحظه من مواقف الخذلان التي وقفها و مازال يقفها بعض قادة الأقطار الإسلامية (رغم انف شعوبهم المحكومة بالحديد والنار و غير المأخوذة في الاعتبار) من الصراع العربي الصهيوني حول القدس و فلسطين، و ما حولها من الأرض المباركة، و الذي كان من المفروض أن يكون صراعا وجوديا حضاريا (إسلاميا-صهيونيا) بين الحق والباطل، والظلم والعدل ، وبين الإيمان والكفر، وليس بين العرب المسلمين وحدهم ضد الصهاينة المغتصبين!!
و الجدير بالملاحظة هنا أن أطرافا في الأمة من غير العرب هم الذين ألغوا الخلافة و طردوا الخليفة الرمز الباهت لما تبقى من وحدة المسلمين التي دامت (رمزيا و إسميا على الأقل) لأكثر من ثلاثة عشر قرنا كما هو معلوم !! و لقد كان أطراف الأمة من الناطقين بالعربية في شرائحهم العريضة (باستثناء اللورانسيين منهم حكاما و محكومين) قابلين بوحدة الأمة و وحدة الخلافة أينما كان المقر الرمزي لقيادتها، في المدينة المنورة في دمشق أو بغداد أو اسطنبول أو القاهرة أو فاس أو القيروان…
و لكن عندما و قعت الواقعة على الأمة بعد مؤامرة (سايسبيكو) و وعد بلفور و إغتصاب ثالث الحرمين الشريفين كان لابد أن يحاول المسلمون الأحرار من العرب المحافظة على أي خيط و لو رفيع يجمع عقد وحدتهم القومية (النواة)، و بذلك و للتاريخ يمكن القول بأن المسلمين الخارجين عن عقد الأمة الكبرى (التي كانت خير أمة أخرجت للناس) هم الذين صنعوا القومية العربية كما هي عليها الآن و كرسوها في معظم دساتيرهم الوطنية و الورقية، والدليل على ذلك أننا في الوقت الذي نجد كل العرب -تقريبا- يعترفون و لو ظاهريا و رسميا بقيام الدولة الفلسطينية بعاصمتها القدس الشريف، و يتضامنون معها في المحافل الدولية (قبل خيانة كامب ديفد وبعدها، و رغم اتفاقية عربة في العلن، و اتفاقية الجولان و ما حولها في السر مثلها) لا نجد مواقف الدول (المسماة الإسلامية) كذلك (باستثناء القليل منها). و خاصة قبل الثورة الإسلامية في إيران، وانتصار الفضيلة الديمقراطية ضد العسكرية العلمانية في تركيا، و باكيستان و أفغانستان و ماليزيا و أندونيسيا و هذا كله بقطع النظر عن براءة الشعوب الإسلامية على اغلبيتها الساحقة مما يفعله حكامهم المستبدون بالقرار و الحاكمون بالإغتصاب و الحديد و النار و الإرهاب، مثل الحكام المسلمين والمتصهينين من الأعراب !!
و مهما تكن الأسباب و الدواعي في هذا الانشطار لدى هذا الطرف أو ذاك، فإن الفصل التعسفي لأقطار الأمة الواحدة (على أساس عرقي أو نطقي) قد أدى إلى الحيلولة دون تحقيق أي شكل فعال من أشكال الوحدة أو حتى التضامن الحقيقي والتعاون على البر والتقوى بين أقطار الأمة (المسماة الإسلامية) في أبعادها الدائمة والسامية فوق الطموحات و النزوات الشخصية و الفئوية و القبلية للحكام، و النزعات الانفصالية، و الهوياتية للأقليات العرقية و الجهوية، في بعض الأقطار الإسلامية الحالية رغم منظمتها العالمية المسماة (تضامنية!!).
الفئة الثالثة: الطموحات السياسية للأقليات العرقية و اللغوية و القومية الممقوتة داخل الأقطار الإسلامية تلتقي كلها في الأهداف مع الاتجاهات السابقة، و تتقاطع مع مصالح كل أعداء وحدة الأمة في مناهضتهم للتوحيد الثقافي (الديني واللساني) في الكيان الأكبر بأي شكل من الأشكال المقبولة سياسيا واجتماعيا وحضاريا حتى على غرار الاتحاد الأوروبي (الكافر) الذي يجمع في كيانه بين كل الأعراق والديانات واللغات في برلمان واحد يجمع ممثلي الشعوب الأوروبية المتناقضة المصالح ومحتويات القلوب والجيوب ، بين أغنياء الشمال وفقراء الجنوب، وذلك خشية هذه الأقليات في أقطارنا الإسلامية من ذوبانها في عموميات الثقافة الإسلامية المسيطرة ،فتعمد إلى التحالف (حتى مع الشيطان) لمقاومة هذا الذوبان في الكيان الثقافي العام الأكبر والموحد لأمة محمد (صلى الله عليه و سلّم).
و هكذا نرى أن الاتجاهات و الأسباب وإن كانت مختلفة في الظاهر ،إلا أنها تلتقي كلها حول هدف واحد كما أسلفنا، و هو الحيلولة دون تحقيق الوحدة السياسية أو الاقتصادية والثقافية في أعم خطوطها الربانية والقرآنية لأبناء الأمة المحمدية والتي من شأنها أن تجعلها كتلة واحدة متجانسة في عمومها ، وواضحة المعالم في خطوطها العامة المميزة لها عن غيرها في أعين أبنائها وأعين غيرهم من الأمم المحيطة بهم في الجوار والمراقبة لحركة نهضتهم ووحدتهم في الليل والنهار في العلن وما وراء الستار!!
و بهذا نجد أنفسنا أمام اتجاهين عامين متعارضين في النظرة إلى وحدة الأمة الإسلامية بين المسلمين أنفسهم فضلا عن أعدائهم التقليدين كما سبق التفصيل في الحديث عن مخططاتهم التي لم تتوقف لحظة واحدة منذ بدأت مع بني قريضة في غزوة الأحزاب وما بعدها، إلى الآن كما نراها في أوج حربها ضد الديمقراطية والحرية والإختيارات الشعبية الحرة في البلاد الإسلامية من مسلمي الهيجور في تركيستان الشرقية إلى مصر وليبيا والجزائر والصحراء الغربية!!
و لتفادي هذا الانشطار الإرادي (المجاني) لأجزاء الأمة الواحدة عند الله القائل في محكم تنزيله بأنه لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم … يتعين على قادة الفكر الإسلامي القادرين على التأثير باللتي هي أحسن (و ليس بالتي هي أخشن) و العمل من أجل نشر الوعي اللازم بين المسلمين (غير الطائفيين) لإزالة هذا التناقض المصطنع لتثبيت صفوف الأمة الواحدة و تصنيفهم على أساس الولاء الوطني أو الطائفي أو القومي غير الإسلامي، بحيث يظهر المحب لوطنه المتفاني في خدمته و المضحي في سبيل تحريره و استقلاله و تقدمه و ازدهاره و كأنه خائن أو مشكوك في ولائه لأمته الصغرى أو الكبرى، و يظهر في المقابل الداعي إلى وحدة المسلمين (على غرار وحدة الناصرى واليهود والمشركين و الملاحدة والمرتدين و كذلك المضحي في سبيل توحيد كلمة الأمة ورص صفوفها في مشرق الأرض ومغربها) و كأنه عديم الولاء لوطنه الأصغر، و تلصق به جرائم أقلها اتهامه بالعمالة لقوى أجنبية، و تهديد الأمن الداخلي أو خيانة الوطن، وتهديد المصالح العليا للأمة!! أية أمة و أية مصالح!؟
وهنا كثيرا ما تقع الضحايا نتيجة هذا الخلط المتعمد والمقصود في هذه المسألة التي يتخذها الحكام الفراعنة المتسلطون (كما قلنا و تعيش الأمة أبشع صورها في قلبها هذه الأيام بعد الإنقلاب على الشرعية الشعبية في جمهورية مصر العربية) ذريعة جاهزة و سيفا مسلطا على رقاب رعاياهم لكتم أنفاسهم وقطع رأس كل من يفكر في تأسيس حزب أو قيادة حركة مناهضة للإستبدادهم بالإنتخاب أو بالإضراب، فضلا عن الجهاد المشروع الذي صنعوا له ذرائع لمحاربته تحت عنوان “الإرهاب” !! و جمع له كل أعداء الأمة من مختلف أقطار العالم لتأكيد استمرار غزوة الأحزاب إلى يوم الحساب والعقاب !!