حياة السوائم..ومماة الهزائم

أيا موت زُر إنّ الحياة دميـمة! وهل بقى في حياتنا العربية، ما يغري بالعيش فيها، بعد أن دُيِّث الأحرار، وشرّد الأخيار، وقُزّم الكبار، وحل الليل محل النهار؟
لحاها الله أنباء، يطالعنا بها الواقع العربي المتردي، في كل حين وآن، من تصادم بين البلدان، وقطيعة بين الأشقاء الإخوان، وتسابق نحو إرضاء الشيطان !
فبينما نحن نعيش، آثار محنة أم الهزائم، ونمني النفس، بإمكانية الاستفادة مما أدى إلى ذلك، من تخاذل، وتواطئ، ومظالم، ها هي ثالثة الأثافي تقصفنا بالطامة، وتصيبنا بهزيمة نفسية عامة، فتتركنا صرعى من هول الضربة القاضية التامة.
أيعقل ما يطفو على الساحة العربية اليوم من تناحر، وتدابر، فرّق بين الأخ وأخيه، والصهر وذويه، وقبيلته التي تأويه، بعد أن نزغ شيطان العدو الأصغر والأكبر، بين الحاكم ومواطنيه، والدين وحوارييه؟
فأية ذبابة خبيثة، دندنت في عقول قادتنا، وسادتنا، وكبرائنا، فأضلونا السبيل؟
كنا نظن، وبعض الظن ليس بإثم، أنّ بين المسلم وأخيه في وطن أمه وأبيه، مهما بلغت الخلافات المذهبية، وتعددت النعرات الطائفية، هناك قيم الوطنية التي ستظل أرحاماً لا تُقطع، وحقوقا لا تُمنع، ووشائج لا تُرفع، ولكن ما راعنا إلا وحدود تُغلق، واتهامات تُلصق، وتوشك – بسبب ذلك- أرواح أن تُزهق، وصواريخ – لا قدّر الله- أن تُطلَق.
إنّ ما حدث ويحدث، بين أجزاء أمتنا العربية من تصعيد، وتهديد، وتنديد، ليترك الحليم حيران. فماذا دهى أمتي، حتى أغطش ليلها، واشتد ويلها، وانحرف ميلها، فتحولت القبلة بين عشية وضحاها، إلى قبلة لا نرضاها، ودعوة لا نفهم مقصدها ولا مبتغاها.
فيا وطننا المسكين !ويا شعبنا الحزين، نريد طبيبا، عالما بأمراض الشعوب، وفقيها ضليعا في أمر السياسات، وعالما، نزيها صادقا متخصصا في أنظمة الحكم، وفقه المعاملات، أن يشرح لنا ما نحن فيه، من هذه النكبة الأخرى التي أصابتنا بعد العديد من النكبات والأزمات؟
ألم تكفنا هزيمة يونيو، التي أسقطت ورق التوت عن جيوشنا، ومرغت في الوحل جباه عروشنا، وملأت بالخزي والعار كل كروشنا؟
ألم يكفنا، تعنت سياساتنا التي أدت بنا إلى خراب سوريا، والعراق واليمن، ودمار ليبيا ومصر، وجزء آخر من الوطن، ومعاناة غزة، والقدس، وما فيهما، ومَن، ومن؟؟
وأين علماؤنا، مما يحدث من كل هذا؟ وأين زعماؤنا؟ وما هذا الصمت المخزي أو النطق المتواطئ، ولماذا؟
أفنيت يا مسكين عمرَك في التأوّه والحزَن
وقعدت مكتوف اليدين، تقول حاربني الزمن
ما لم تقم بالعبء أنت، فمن يقوم به إذن؟
***
وطن يباع، ويشترى، وتصيح فليحيا الوطن
لو كنت تبغي حقه، لبذلت من دمك الثمن
ولَقمت تندب حظه، لو كنت من أهل الفِطَن
عار – والله عليكم- يا أبناء أمتنا العربية مما تفعلون، بوطنكم، وأمتكم، ومصير مستقبلكم !
وأين – مما تفعلون- ميثاق الجامعة العربية، واتفاقيات مجلس التعاون الخليجي، ومعاهدات منظمة التعاون الإسلامي؟ بل وأين أنتم من أمر الله القائل: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} (الأنبياء: 92). وقوله تعالى: {وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (الأنفال: 46).
نحن نؤمن، بأنه، أيّا كانت الخلافات السياسية التي قد تحدث، والنزاعات الإقليمية التي قد تطرأ فإنّ هناك، الحق الثابت الذي لا يجب أن يمس، وهو حق الشعوب في الاستقرار، وحق الأخ الجار على أخيه الجار، وإنّ آخر الدواء الكي كما يقول مثلنا العربي، فما لنا نبدأ بالحرق، والخرق، بدل حل النزاعات بالحوار، وحق الجوار، وتفادي كل الأضرار، ونداءات المتطرفين الأشرار؟
نحن بالرغم من كل ما حدث، لا يزال يحدونا بصيص من الأمل، في إصلاح ذات البين {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ}:
وإنّ جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وهي أم الجمعيات في الجزائر، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، لتمد يدها إلى كل علماء أمتنا، من وجوب القيام بعمل ما من أجل رأب الصدع، وإعادة توحيد الجمع، ولن يهدأ لنا بال، ولن يستقر لنا حال مادام الأخ يشهر السلاح في وجه أخيه، وما دام الشقيق يطلق النار على شقيقه فيرديه..
فاذكروا يا حكام أمتنا، ويا علماءها، ويا عقلاءها وصلحاءها، اذكروا ونحن في شهر الصوم، شهر التسامح والغفران، أنّ جرمنا عند الله وعند الناس عظيم، إن لم نطفئ بذور هذه الفتنة، لأنّ الله سائلنا جميعا، كل من موقع مسؤوليته، عما نحن فاعلون بديننا، وأمتنا، وتاريخنا، ومستقبلنا.
فاعتبروا ما حدث، مجرد سحابة صيف، وادفنوا خلافاتكم وأحقادكم، وانهضوا فالوطن غالٍ، ودم المسلمين أغلى، وكما يقول إمامنا عبد الحميد بن باديس: “الحق فوق كل أحد، والوطن قبل كل شيء”.

Exit mobile version