الغنى وظيفة اجتماعية/ الأستاذ محمد الهادي الحسني
ذكر الأستاذ الدكتور يوسف القرضاوي حفظه الله، وثبته على الحق، وأخزى مطارديه من فرعون مصر الجديد، وهامانيّيه، وقارونيّيه، ومن ملوك السوء، وأراء الفساد، الذين هم جميعا “عبيد” في شكل أحرار.. ذكر في كتابه القيّم “دور القيم والأخلاق في الاقتصاد الإسلامي” أن المفكر الفرنسي، ولا أقول العالم، لأن العالم الحقيقي هو الذي يخشى الله، عز وجل – ولا يستنكف أن يكون عبدا له – سبحانه وتعالى -، هذا المفكر – أوجست كونت – الذي يعتبره الغربيون والقوم التبّع لهم من “المسلمين”، هو مؤسس علم الاجتماع، وهو الأمر الذي لا يسلم به علماء ومفكرون آخرون، مسلمون وغير مسلمين.
لأنهم يؤكدون أن الحائز بسبق تفضيلا في ذلك هو العالم الكبير ولي الدين عبد الرحمان ابن خلدون (ت 808هـ) وإن لم يُسمّ هذا العلم، الذي وفقه الله إليه علم الاجتماع، ولكنه سماه بما يناسب روح الإسلام وحضارته، فسماه “علم العمران”، الذي لم يورده هو الآخر عنوانا لكتاب خاص، ولكنه ورد ضمن كتابه الجليل “المقدمة”، التي دلت على عبقرية نادرة، حتى إن أعظم مؤرخ في القرن العشرين، وهو الإنجليزي أرنولد توينبي اعتبره “أعظم مخلوق في التاريخ البشري كله، وإن كنا كمسلمين لا نقول بهذا، لأننا نؤمن يقينا أن أعظم مخلوق وأجل مرزوق، هو “سيد الكونين من عرب، ومن عجم”، ثم الرسل والأنبياء، عليهم الصلاة والسلام، ثم خير القرون… ثم الأكرم فالأكرم عند الله – عز وجل-.
أقول ذكر الدكتور القرضاوي في كتابه آلآنف الذكر أن أوجست كونت قال: “إن الغِنى وظيفة اجتماعية”، وأن “الغني موظف في النظام الاجتماعي”. (ص 56. دار الرسالة. بيروت. 2002).
وقد عقب الدكتور القرضاوي جعل الله له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه بأمر الله مما يدبره له الأراذل، وأشباه الرجال، عقب على الكلام المنسوب لأوجست كونت بأنه “كلام حسن، وأنه تأخر من ظهور الإسلام قرونا عدة، ولم يرتفع إلى ما جاء به القرآن الكريم من دقة وروعة في بيان وظيفة الغني في ثروته”. (ص 56).
إن هذه الوظيفة لم يجعلها الإسلام “منة” من هذا الغني، وإنما جعلها “ركنا” من أركانه سماه “الزكاة”، يؤدى كل سنة إذا توافر شرطاه، وهما النصاب، وحولان الحول، ويرغب الإسلام ترغيبا كثيرا في إنفاق هذا المال خارج هذا الركن… وقد مهّد الإسلام لذلك بمبدإ رائع غرسه في نفوس المؤمنين، وهو تأكيده أن “أصحاب” الأموال إنما هم مستخلفون فيها، وأوعد الذين يكنزونها، ولا ينفقونها في سبيل الله بأوسع معانيه – وليس في الجهاد المسلح فقط-، أوعدهم بأن ما كنزوه سيحمى في نار جهنم، ثم تكوى به جباههم، وجنوبهم، ويقال لهم: “ذوقوا ما كنتم تكنزون”.
ونخرج من هذا إلى وقاعنا الجزائري فنرى أكثر أغنيائنا شعارهم كشعار قارون الذي قال عما “عنده”، أو عما استخلف فيه، “إنما أوتيته على علم عندي”.
وقد أشرت من قريب إلى مقولة الشيخ أحمد سحنون – رحمه الله – الذي كتب في عام 1963 قائلا: “المال للاستقلال”. وأرى أن هذا الكلام مايزال – ولن يزال- صالحا، فالاستقلال أنواع كما أن “الاستعمار” (*) أنواع. فأين هم أغنياؤنا في المجال الثقافي، والعلمي، والاجتماعي..؟ حتى ليتمكن لك أن يتساءل على طريقة الشيخ حمزة بكوشة – رحمه الله – “هل عندنا أغنياء؟”. على هؤلاء الأغنياء أن يستيقنوا أن الله – عز وجل – سيسأل كل واحد منهم – كما جاء في الحديث النبوي الصحيح – عن “ماله” من أي اكتسبه وفيما أنفقه.. وكلما كان الإنفاق على المشروعات الاجتماعية كان أجدى على “صاحبه” وعلى ما أنفق فيه..