عبادة “سلبية” ذات أثر إيجابي- الأستاذ محمد الهادي الحسني
وصف الإمام محمد البشير الإبراهيمي الصوم بأنه “عبادة سلبية” (الآثار 4 ص 198) وعنى بهذا الوصف أنه ليس له مظهر خارجي مثل العبادات الأخرى التي لها مظهر خارجي يراه الناس بأعينهم، ويلمسونه بأيديهم، فالصلاة فيها تكبير، وقراءة سرية وجهرية، وركوع، وقيام من ركوع، وسجود، وقيام من سجود، وجلوس، وتشهد، وسلام، والزكاة، فيها إخراج للمال وإن أخفي، والحج بعد التنقل لآلاف الأميال فيه طواف، وسعي ومبيت بمزدلفة ووقوف بعرفة، ورمي…
ولكن ذلك كله غير موجود في الصوم، ولذلك اعتبره “أبعد العبادات عن الرياء الذي هو الداء الماحق للحسنات.. ولهذا جاء في الحديث القدسي أن كل عمل ابن آدم له، إلا الصوم فإنه لي… والصوم هو العبادة الأكثر ممارسة من المسلمين، فلو قدرنا أن الشعب الجزائري يبلغ الأربعين مليونا فإنه لا يصلي منه في أحسن التقديرات إلا النصف أو أقل، ولو قدرنا أن الذين تجب الزكاة في أموالهم يبلغون ثمانية ملايين، فإن الذين يخرجونها لا يتجاوزون النصف. والنصف كثير، وكذلك الحج… أما الصوم فإن الأغلبية الساحقة من الجزائريين يصومونه، ولو بمعناه الظاهري، أي إمساك عن الشهوتين…
مادامت هذه العبادة سلبية فأين هو أثرها الإيجابي؟
إن ذلك الأثر الإيجابي تدل عليه الحكمة من الصوم الواردة في الآية الكريمة التي يقول فيها الله – عز وجل. “يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون أياما معدودات”.
فالله – عز وجل – الذي أمرنا بالصوم، نص – وهو العليم الخبير – في هذه الآية الكريمة على أن غاية الصوم الحقيقية، وهدفه الرئيس ليس هو “التجويع”، إذ ما يفعل الله بعذابنا بالجوع أو بغيره، ولكن الغاية والهدف من هذه العبادة “السلبية” هو التقوى”.
وما أكثر ما تحدث الإسلام – قرآنا وسنة، عن التقوى، وما أكثر ما روى التاريخ الإسلامي قصصا عن المتقين ذكرانا وإناثا، حتى عدها الأديب والعالم القرآني مصطفى صادق الرافعي “هي الأصل الأول لأخلاق الإسلام الفردية والاجتماعية، التي أمضاها، وأعلنها، ورفع شأنها، وجعلها من العزائم المفروضة والفضائل الواجبة… فهي أم مكارم الأخلاق وأصل فروع الفضائل”. لقد تأمل عالم في الأصل اللغوي، فأرجعه إلى ثلاثة حروف، هي القاف، والواو، والياء… ووجد أن هذه الحروف الثلاثة مع التقديم والتأخير في وضعها تدل على ثلاثة معان هي:
– معنى القوة.
– ومعنى الوقاية.
– ومعنى الاتقاء أي الاجتناب.
وهذا ما يجعلنا نفهم المعنى من جعل التقوى “لباسا”، يتقى به، ويجتنب به، ويتقوى به، فقد جاء في القرآن الكريم قوله تعالى: “ولباس التقوى ذلك خير”، ولهذا انتهى العلماء إلى أن غير المتقي فاسد في نفسه، مفسد لغيره.
ومن بديع الإسلام أن الصوم “عقوبة وكفارة”، كما يقول الإمام الإبراهيمي”، ولم يجعل هذا لغيره من العبادات والأركان، فلا تكفير لذنب بصلاة ولا حج ولا مال من جنس الزكاة”. (الآثار 4 / 198).
فاللهم فقهنا في دينك القويم حتى نؤمن بك عن علم، ونحي بدينك عن بينة، ونسعد بشريعتك في الدنيا، ونكون في الآخرة من المفلحين.