منذ نصف قرن و الجامعات الفرنسية تنهل من علمه.. العلامة المفكر الجزائري عَلي مَرَّاد في ذمة الله
*محمد مصطفى حابس : جنيف/ سويسرا*
ونحن في مستهل نفحات رمضان الكريم، اتصل بي الأخ العزيز الدكتور محمد شعبان ليخبرني أن العلامة الجزائري المفكر الدكتور علي مرّاد ارتقى إلى جوار ربه عن عمر ناهز 87 سنة، في صمت جنائزي إعلامي نادر، وقد أدى وحشد من الجالية المسلمة صلاة الجنازة على المرحوم يوم الجمعة الماضية في المسجد الكبير بمدينة ليون الفرنسية محل سكن المرحوم منذ عقود، ولم يرحل لمسقط رأسه بصحراء الأغواط الجزائرية ودفن في مربع المسلمين بمقبرة ليون، ولم يحضر دفنه إلا القليل من أبناء الجالية، علمًا بأن الشيخ الدكتور علي مرّاد عالم موسوعي معروف في عالمنا الإسلامي خاصة للناطقين بالفرنسية أمثالنا نحن سكان دول المغرب العربي.
كفاءاتنا العلمية تلتقمهم حيتان الجامعات الغربية
هذا الرجل الذي حفظ القرآن الكريم وهو طفل في كتاتيب الصحراء الجزائرية إبان الاستعمار الفرنسي البغيض، ها هي تلتقمه لمدة عقود الجامعات الفرنسية أمثال باريس عاصمة الأضواء وليون وها هو يرحل ليلتحق بأصحابه أمثال الدكتور محمد أركون ومحمد شبال وغيرهما، مخلفًا بصماته في الجامعات الفرنسية خصوصًا والدولية عمومًا.
كان رحمه الله شخصية رئيسية في الدراسات الإسلامية ورائدة في الحوار الإسلامي المسيحي في فرنسا، مع رحيله يختفي عالم رائد مشرف ليس فقط لوطنه الجزائر أو فرنسا بل للمجتمع الأكاديمي الدولي بأسره.
أنا لا أزعم أنني مطلع على كل تراث المرحوم، إلا أنني لم أتعرف عليه إلا في نهاية ثمانينيات القرن الماضي من خلال اطلاعي على بعض كتاباته خاصة مقالاته في مجلة “الشاب المسلم” التي كانت تصدرها جمعية العلماء المسلمين في بداية خمسينيات القرن الماضي وجمعها المركز الثقافي الإسلامي علي بومنجل بالجزائر العاصمة في مجلدين قبل طبعهما في لبنان طبعة راقية فاخرة من طرف دار الغرب الإسلامي التي غادرنا الأسبوع الماضي مؤسسها التونسي المرحوم الأستاذ لحبيب اللمسي، الذي يعود له الفضل في نشر التراث المغاربي الإسلامي عمومًا والجزائري خصوصًا.
الدكتور علي مرّاد باحث بين ضفتيْن
نشرت مجلة “الشاب المسلم” الناطقة بالفرنسية في عدد شهر يناير رقم 23 مقالًا مطولًا غاية في الأهمية للأخ الدكتور مولود عويمر، ترجمه للفرنسية الأخ الأستاذ عبد اللطيف سيفاوي تحت عنوان “علي مرّاد: باحث بين ضفتيْن”، حيث ذكر كاتب المقال بلفتات طيبة كثيرًا ما نمر عليها غافلين أن “المعاهد الاستشراقية المعروفة في الغرب لم تكن ليديرها فقط المستشرقون الأوروبيون، وإنما ثمة مراكز وأقسام للدراسات الشرقية أخرى أسسها علماء عرب أو مسلمون في رحاب الجامعات الأوروبية والأمريكية، وأشرفوا فيها على تكوين أجيال من المستشرقين الأوروبيين والباحثين العرب المختصين في مجال الدراسات العربية والإسلامية.
ومن بين هؤلاء الأساتذة البارزين ذكر: “ألبرت حوراني في إنجلترا، فيليب حتّي في الولايات المتحدة الأمريكية، فؤاد سزكين في ألمانيا، محمد أركون علي مَراد في فرنسا، إلخ”. متسائلًا في نفس السياق “هل كانت لهذه البيئة الغربية تأثير على منهجهم العلمي وإنتاجهم المعرفي وعلاقتهم الوجدانية بثقافتهم وصلتهم بمصير أمتهم، أم على العكس من ذلك، استفادوا من الإمكانات المادية والفرص المتاحة لخدمة تراثهم والتعريف بحضارتهم”؟
مبينًا أن الدكتور علي مرّاد يعتبر من أكبر المختصين في الفكر الإصلاحي المعاصر، كما خصص كتبًا ودراسات ومقالات لرواد الإصلاح في العالم الإسلامي أمثال محمد عبده ومحمد إقبال وأبو الأعلى المودودي وغيرهم، غير أنه اعتبر الشيخ عبد الحميد بن باديس أعظم من كل هذه الشخصيات المرموقة، إذ قال عنه الدكتور علي مراد: “لا يوجد شخص آخر مثل الإمام عبد الحميد بن باديس جسد أصالة وعالمية الرسالة الإسلامية، لا أحد مثله أيضًا استطاع أن يذكي بمثل هذه الطاقة الجمة العديد من الآمال بالتطور والتكيف مع الأزمة الحديثة”.
من كتاتيب الصحراء إلى عاصمة الأضواء
ولد الأستاذ علي مرّاد في 21 من أكتوبر 1930 بالأغواط على ضفاف الصحراء الجزائرية، إذ كان من الثلة القليلة التي استطاعت في عهد استعماري بغيض الظفر بتعليم مزدوج، التمدرس في الكتاتيب القرآنية حيث حفظ القرآن الكريم كاملًا عن ظهر قلب، والتعلم في المدرسة الفرنسية، درس في كلية الآداب بجامعة الجزائر وحصل فيها على الإجازة في اللغة العربية في سنة 1954، وواصل دراساته العليا بجامعة السوربون في باريس حيث نال فيها شهادة التبريز في سنة 1956 في نفس التخصص، وشهادة دكتوراة الدولة في الآداب في سنة 1968 بعد أن قدم أطروحة الحركة الإصلاحية في الجزائر بين 1925 و1940.
وتفرغ بعد ذلك للتدريس والبحث في مجال التاريخ والدراسات الإسلامية، وقد أثمرت كل هذه الجهود فكوّن أجيالًا من المختصين في تاريخ العالم الإسلامي وآدابه، وألف عددًا من الكتب والبحوث النفيسة منها “الحركة الإصلاحية في الجزائر بين 1925 و1940″، “ابن باديس مفسرًا للقرآن”، “نور على نور”، “صفحات من الإسلام”، “مدخل إلى الفكر الإسلامي”، “الإسلام المعاصر”، “السنة النبوية”، “شارل دو فوكو في نظر الإسلام”، “الإسلام والمسيحية في حوار”، “الإمبراطورية العثمانية وأوروبا من خلال أفكار وذكريات السلطان عبد الحميد الثاني”، “الخلافة، سلطة للإسلام؟”
كما أسس في عام 1974 المعهد الجامعي للدراسات العربية والإسلامية في ليون، بعدها أصبح مسؤولًا عن تدريب الدكاترة في الدراسات العربية والإسلامية في جامعة جان مولان بمدينة ليون ثم السوربون، بعد ذلك خولت له شهرته العلمية رئاسة معهد الدراسات العربية والإسلامية في جامعة باريس الجديدة، فعضو لجنة تحكيم الإجازات وعضو المجلس الوطني للجامعات الفرنسية.
اهتم علي مرّاد مبكرًا بتاريخ الجزائر ومكانة الإسلام في تشريعاتها
اهتم علي مرّاد مبكرًا بتاريخ أرض أجداده الجزائر سواء في العصور القديمة أو في الفترة المعاصرة، فنشر أول بحوثه العلمية في مجلة حوليات معهد الدراسات الشرقية (الجزائر) في عام 1957.
ولم يقتصر الدكتور مرّاد على دراسة الجزائر في فترة الاحتلال بل درس قضايا لها صلة بالدولة الجزائرية المستقلة، فبيّن على سبيل المثال لا الحصر مكانة الإسلام في تشريعاتها المختلفة انطلاقًا من الدستور الجزائري الذي اعتبر الإسلام دين الدولة.
من مؤلفات الدكتور علي مَرّاد “الإسلام المعاصر” الذي عرف رواجًا كبيرًا وأعيد طبعه مرات عديدة، وترجم إلى عدة لغات كالإنجليزية والعربية والتركية والإسبانية واليونانية والرومانية والسويدية، وكتابه “الحركة الإصلاحية في الجزائر بين 1925 و1940” الذي يعد مرجعًا مهمًا في تاريخ جمعية العلماء المسلمين الجزائريين ولا يضاهيه كتاب آخر في عمقه وتحليله وبنائه واستنتاجاته، ذلك بأن “الدكتور مرّاد عاش في أحضان هذه الحركة الإصلاحية، وتعرف عن قرب على رجالها، وقرأ أدبيتها بتمعن، ووظّف المناهج العلمية الحديثة في التعامل مع النصوص والفهم للوقائع ضمن سياقاتها” على حد تعبير الدكتور عويمر.
غادر الجزائر ليستقر نهائيًا في فرنسا منذ نصف قرن
غادر الدكتور علي مراد الجزائر في بداية السبعينيات من القرن الماضي ليستقر نهائيًا في فرنسا منذ أكثر من 46 سنة، غير أنه بقي على صلة بوطنه، فكان يزور الجزائر خاصة في فترة الثمانينات للمشاركة في النشاطات الفكرية والعلمية، منها مساهماته في أعمال الملتقيات للفكر الإسلامي التي كانت تنظمها كل عام وزارة الشؤون الدينية.
أما في فرنسا فقد ساهم الدكتور مراد في النشاطات الثقافية والفكرية التي كانت تنظمها الجمعيات الفرنسية في فضاءات عمومية لشرح الرؤية الإسلامية تجاه القضايا المعاصرة المطروحة، وكذا احتكاكه ببعض رموز العمل الإسلامي من جيله أمثال الشيخ محمود بوزوزو الذي كانت تربطه به علاقة تاريخ نضال وتراث جمعية العلماء المسلمين.
كما اهتم أيضًا بالحوار الإسلامي المسيحي، وشارك في عدة ندوات ولقاءات نظمتها المؤسسات الكنسية في مدينة ليون، ونشر عدد من المقالات والكتب مؤكدًا فيها حاجة المسلمين والمسيحيين إلى التعارف والتقارب والتعاون خاصة أنهم يعيشون في مجتمع واحد ويشتركون في مصير واحد، مما يفسر حضور بعض الوجوه الفاعلة في الحوار الإسلامي المسيحي في جنازته أمثال الفرنسي كريستيان دولورن رفقة الجزائري كمال قبطان.
رزيتنا في الفقيد أننا لم نستثمر جهده كمساجد وكجالية
رزيتنا في الفقيد أننا لم نستثمر جهوده كمساجد وكحركة إسلامية، خاصة بعد تراجع حضوره في السنوات الأخيرة، حيث اختفى عن الأنظار فالتهمه الحوار الإسلامي المسيحي المنهك للجهد والوقت، لأن للمساجد أهمية بالغة في حياة المسلمين، فهي الزاد الروحي لمسيرة المسلم الطويلة إلى الله تعالى مهما كان وزنه، واليوم لا بد من إعادة تلك الأهمية والمكانة إلى نفوس الناس وواقع حياتهم، لكي لا تتكرر مثل هذه المأساة المحزنة، وما علينا إلا أن نسمو بهممنا متضرعين لله بقولنا “لِلَّهِ مَا أَخَذَ وَلَهُ مَا أَعْطَى، وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى”، و”إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ” والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.