قصة الإيمان بين: الفلسفة والعلم والقرآن- محمد الهادي حسني

لولا بركة القرآن الكريم، الذي حفظته بفضل الله-عز وجل- في المسجد العتيق بمدينة جيجل، ولمّا أبلغ الحلم، ثم بفضل حرص والدي ودعاء والدتي، وبقبضة قبضتها من أثر بعض أشياخي النّجب-رحم الله الجميع- لغلبت عليّ شقوتي، واستحوذ عليّ قريني، وسلكني في جنوده. فلله المنة، وله الحمد والشكر، وجزى الله عني أصحاب الفضل عليّ ممن ذكرت وممّن لم أذكر.. وأسأله الثبات فيما بقي من العمر، ويوم يقوم الأشهاد..
دخلت جامعة الجزائر في العام الدراسي 1969-1970، وكنت ما أزال حديث السن، قليل التجربة، بضاعتي مزجاة من المعرفة، وما أزال كذلك، وشياطين الأنس يتربصون بأمثالي حديثي الأسنان، الذين يُفتنون في كل يوم مرات، ومغريات الجامعة تُزيغ الأبصار، وتكاد الكاسيات العاريات، المائلات المميلات اللواتي تفتنّ النسّاك، فضلا عن الشبان الأغرار، كما فتنت صاحبة الخمار الأسود ذلك الناسك المتعبد، فكيف بأمثالي الذين لم يكونوا لا نسّاكا ولا فتّاكا، وليس في موازينهم إلا رُكيعات أقيمت بكسل وعلى عجل، حتى لا يُدرى “أثنتين صليّت أم ثمانيا” كما يقول الشاعر.
كان جو الجامعة في عمومه يشجع –خفية وجهرة- على الانحراف، يمكّن “للدين” الجديد المسمى الاشتراكية، حتى قال كبير من كبراء ذلك الوقت: “لو لم يخلق الله الاتحاد السوفياتي لخلقنا الاتحاد السوفياتي”، وكان بعض الأساتذة الذين يدرّسوننا يمثلون في دروسهم دور “الأنبياء” المبشرين بهذا “الدين”، ويُمنّوننا بـ”جنة” كانت أقرب إلى ما سماه العرب قديما “بحر الشيطان”، أي السراب الذي يحسبه الظمآن –وما أشد ظمأنا في ذلك الوقت- ماء، “حتى إذا جاء لم يجده شيئا”.
كان مسجد الطلبة الصغير يمثل لنا “واحة” في تلك الصحراء القاحلة، ولكن دراستنا كانت في قاعات الجامعة وليست في مسجد الطلبة.. الذي كان يشحن قلوبنا ببعض الطاقة الروحية، ولكن عقولنا تبقى جائعة لما يُشبعها ويُحصّنها ضد الحملات التشكيكية ضد الإسلام.
كنا نحن بضعة طلاب من ذوي المشرب الواحد قليلا ما نحضر الدروس النظرية، إذا لم نكن نُحاسب على الغياب عنها، فلا نحرص إلا على حضور الدروس التطبيقية، وذات يوم حضرنا درسا نظريا عند أستاذ، ملأ عيوننا بجسمه الرياضي، وشكله الوسيم، وملأ أسماعنا بلسانه الفصيح، واستولى على عقولنا بمنطقه السليم، وأُعجبنا به عندما علمنا-ولم ندر كيف علمنا- أنه من “المغضوب عليهم” عند السلطان، ولم يكن من الضالين عند الرحمن، إنه الأستاذ الهاشمي التيجاني، وكان لمّا يتدكتر بعد..
كان الكتاب الذي يتخذه محور درسه ذا عنوان لافت، حيث شعرنا أننا وقعنا على ضالّتنا، إنه “قصة الإيمان بين الفلسفة والعلم والقرآن” لعالم من لبنان يسمى نديم الجسر، فثنينا به كتابا نُصحنا بقراءته هو كتاب “الإنسان ذلك المجهول” للعالم الفرنسي ألكسيس كاريل.
لقد زادنا تعلقا بالكتاب، وإقبالا عليه، رغم عدم فهمنا لكثير مما فيه، اللغة الرشيقة التي كتب بها، والأسلوب الطلي الذي حبّر به، وإشادة أولى النّهى بمضمونه”.
لقد أنقذنا كتاب “قصة الإيمان بين الفلسفة والعلم والقرآن” من الضلال، من غير أن نقرأ كتاب “المنقذ من الضلال” للإمام أبي حامد الغزالي، الذي لمّا نسمع به آنذاك. ورحم الله أستاذنا الدكتور الهاشمي التيجاني الذي هدانا إلى هذا الكتاب، وقرّبه إلى عقولنا وقلوبنا..