نداء الأمطار
انشرح الكون وابتهج القطاع الفلاحي، وترك القطاع الصناعي مرتبكا خائفا، وساد الأمل والفرح في أوساط الذين يحرصون على فلاحة الأرض وتثميرها، وقد أعدوا الأدوات والوسائل لذلك، واحتار الذين يتحايلون على تحويل الأراضي الخصبة إلى مصانع ضعيفة لا تنتج ما يساوي طاقتها الإنتاجية في الفلاحة، ولقد تهاطلت الأمطار في هذه الأيام في أنحاء الجزائر الواسعة، ورافقتها الثلوج الناصعة البياض، وبعض الأمواج من الرياح، وليست تلك الظاهرة غريبة علينا في هذا الفصل الشتائي الذي نمر به ونأمل في أن تعتدل أجواؤه، وتتبادل فيه المواقع، الأمطار والرياح والصفاء الشمسي.
والمنزعجون من المطر العنيف والبرد الشديد، والريح القوية هم الذين لم ينتهوا من بناء ديارهم ولم يغطوا منازلهم أمام عوامل الطبيعة، وما أكثر ما نرى من بناء ديارهم ولم يغطوا منازلهم أمام عوامل الطبيعة، وما أكثر ما نرى هؤلاء في ضيق حينما ينزل المطر أو تهب الريح العاصفة، وفيما نشاهده حولنا، وما نراه قربنا ما يوحي بنداء صارخ يطالبنا باستغلال الفرصة والإقبال على المزيد من التشجير الشامل، وينهانا على الاعتداد بما أنجز في وقت سابق، وقد يثير هذا الاعتداد “الافتخاري” التوقف عن حملات غرس الشجيرات في أنحاء الوطن.
والواقع أن ما وقع غرسه من شجيرات، يعتبر قليلا جدا بالنظر إلى سعة المساحة، ومقدار أعمال التخريب التي سادت قبل الثورة التحريرية وأثناءها، وإنه لا يحق لنا أن نبقى نردد إنجاز السد الأخضر، وكفى بل يجب علينا القيام بحملات متصلة نغلق بها أبواب الصحراء ونمنع زحف الرمال وموجة التصحر التي تفاجئنا أحيانا وتسرق غفلتنا ونومنا العميق أحيانا أخرى، ولهذا فأحد مواقع التحدي أمامنا، هو التصحر الذي يهاجم ويتقدم في فترات من الغفلة التي قد تصيبنا وفيها بعض الغرور وسوء تقدير الأشياء وما يحدث من تطورات في عالم الاستحالة والتغيير، وما يقال عن منافع الغطاء الغابي والشجري قليل بالقياس إلى ما يحدثه من ارتياح وبهجة وصحة في النفوس، وثبات واطمئنان في العقول التي تهتم بالتفكير والبحث والبناء القوي، لأن الخسائر التي لحقت وطننا –ومنها الغابية- خلال سنين عديدة تعد ثقيلة، وتستدعي القيام بحملات تشجيرية متصلة، لاسترجاع ذلك الغطاء الغابي والشجري الجميل والمفقود بسبب الأعمال التخريبية التي ميزت عهد الاحتلال البغيض الذي كان ليلا حقيقيا على الجزائر، لهذا ولأكثر منه فلا يحق الانقطاع عن التخطيط والترتيب في أعمال التشجير كلما وجدنا سبيلا إلى القيام به، وقد نعمل على فتح هذا السبيل، وتوسيعه لأجل الفائدة..
وإذا كانت هناك قدرة قادرة فيجب الاعتناء بالشجيرات أثناء الحرارة القوية والجفاف المتصل، وبيننا قوم لا يكادون يأبهون بالغطاء الغابي والنباتي الكثيف وهم في هذا الموقف مخطئون، ففي رعاية هذا الغطاء صفاء وتصفية للهواء الملوث حتى يقع استنشاقه بسهولة ونجاعة، وفيه المناظر الخلابة التي تريح الأعين والقلب، وبشأن المغروسات فقد نجد الأولوية للشجر الذي يناسب الشعاب وقمم الجبال الصخرية مثل البلوط وما يشبهه بينما عند بعض المجتمعات المغروسات شجيرات التفاح والإجاص وغيرها ولا يعتدي عليها أحد لأنها من الأملاك العمومية ويعاقب القانون على إفسادها أو استغلالها من جانب المنحرفين أو العابرين، إنه موقف رائع يدل على التفاهم والانسجام والإحساس بالواجب الجماعي الذي يفرض وجوده على الجميع دون تفريق أو استثناء.
إنه نداء الأمطار والثلوج والرياح والاعتدال في الأفق، يطالبنا بعناية خاصة للتشجير، وبأن نمنح جهدا ثقيلا لحملات على المستوى الوطني، والإقدام على غرس الملايين والملايين من الشجيرات المناسبة، وإن بعض المجتمعات لشدة شغفها بجمال البيئة المحيطة تقوم بغرس الشجيرات في كل مناسبة وفرصة، وتحيطها بالدعاية الإعلامية وتجعلها في صلب الدروس المدرسية والوعظية الدينية، بل إنها تهيئ فيها الأعشاش للطيور كي تتكاثر بسهولة وبدون عناء، وما اعتقد أننا نرى عند تلك المجتمعات أطفالا يخرجون من المدرسة ويقبلون على قتل الحمام في الساحة العامة، وفي الحدائق العمومية يقوم الأطفال عندنا بقطف الورود في فوضى غريبة والأولياء يضحكون في أفراح غامرة.
وإذا أنت لفت أنظارهم إلى ما يقع من تخريب منكر وفساد غريب تضايقوا من تعليقك، وربما قالوا لك: ما دخلك؟ وما كان ينبغي أن نتجاهل نداء الأمطار والثلوج والرياح للاندفاع في طريق التشجير الوطني حتى نكون في مستوى فرض الابتهاج والارتياح ومواجهة التصحر وزحف الرمال واختلال منظومة البيئة المؤثرة في مسيرة حياتنا، وهل يقنع العاقل بالأعمال القليلة؟ وهل يتغاضى العاقل عن سماع نداء يأتي من قوى صادقة ثابتة؟
إنه في مثل تلك الأحوال، لا يقنع العاقل، ولا يتغاضى السامع، في مجتمع تدفعه اليقظة إلى الانطلاق في دروب التقدم والتطور ومن مظاهره العديدة إحاطة البيئة بالرعاية الكاملة ومن كل الجانب.