البُعد الدنيوي للإسلام- عبدالعزيز كحيل
في الإسلام – خلافا للمسيحية – ينطلق التديّن من الفرد ولا ينتهي عنده وإنما يشمل حركة المجتمع بكل أبعادها السياسية والاقتصادية والثقافية والمالية والاجتماعية، والتدين الفردي إذًا ضروري لكنه غير كافٍ، لأن الإنسان كما هو مكلف بواجب العبادة فهو مكلف بأداء مهام الخلافة والعمارة، أي بالتحرك القوي الواعي في مجالات الحياة كلها، مستصحبا أحكام الشريعة وأخلاق الإسلام والقيم الهادية، وليس المديّن أبدا ذلك المهتم “دينيا” بشؤون نفسه في دائرة الشعائر والمستحبات والفضائل فحسب، فهو في هذه الحال منقطع عن الواجبات الاجتماعية التي لا تقوم بدونها قائمة للإسلام ولا للأمة، وقد كان هذا شأن الصوفية الذين اختاروا الهروب بدينهم إلى الخلوات، فربما نفعوا أنفسهم جزئيا لكنهم خذلوا مجتمعاتهم ووصموا الإسلام بالسلبية، ومثلهم أولئك الشباب الذين استهواهم التديّن العاطفي فبالغوا في الاعتناء بالحيّز الفردي وخاصة بالجزئيات على حساب الكليات وبالأشكال على حساب الجوهر، وتركوا بشكل شبه كامل الحياة الاجتماعية فكانت فتنة كبرى تمثلت في علمانية واقعية لا تبوح باسمها، تحشر المتدينين في المساجد وأغوار الضمائر، أما في شؤون الدنيا فتطلق العنان لمن لا دين لهم ولا خَلق، وكان هذا – مع الأسف – بمباركة علماء الحكومات الذين يؤصلون للتدين الفردي ويأمرون بترك الحياة الاجتماعية لمن يسمونهم ” أولي الأمر ” لأنهم – دون سواهم – أعلم بما ينفعنا !!! وهذا تحريف لا يخفى على من درس القرآن والسنة بتمعّن ولم يلبس دراسته بهوى نفسه أو غيره.
• بالرسول نقتدي: ما إن وصل الرسول صلى الله عليه وسلم المدينة المنورة حتى بدأ تجسيد نظرية الإسلام الشاملة للحياة الجامعة بين مطالب الروح والجسد والدنيا والآخرة، فبدأ بتشييد المسجد لكنه لم يكتفِ بذلك بل مرّ مباشرة إلى إقامة سوق، أي وفّر أدوات التعبّد الروحي والاقتصادي، ولئن كانت الحياة الاجتماعية آنذاك بسيطة ساذجة إلا أن الرسول صلى الله عليه وسلم وضع معالم أساسية لكلّ حياة مهما تعقدّت، فكأنه يضع المسلمين أمام حقيقة التديّن المحكومة بالتوازن سواء في شخصية المسلم أو طرق حياته.
• نموذج يوسف: إذا فحصنا سيرته كنبيّ من أنبياء الله تعالى وجدناه داعية من جهة ومسيِّرا من الجهة الأخرى، يشتغل بالمجال السياسي الاقتصادي اشتغاله بالدعوة إلى توحيد الله وإفراده بالعبادة، في السجن استغلّ الفرصة فعرّف صاحبي الزنزانة بالله والدين القيّم، وفي القصر تولّى شؤون الاقتصاد والتموين وأظهر مهارة فائقة في التسيير، هناك عمِل على إنقاذ الناس من نار الآخرة، وهنا عمل على إنقاذهم من الضائقة الاقتصادية.
هكذا عاش يوسف عليه السلام دينه: داعية إلى الله وفي نفس الوقت سياسي كبير ومسؤول على قطاع خطير في حياة المجتمع وفي زمن الأزمة الغذائية المحدقة به، تولّى منصبا تلازمه المغارم لا المغانم، ورسم بذلك الطريق الصحيح للمتدينين.
• رسالة موسى: حمل موسى عليه السلام إلى فرعون رسالة ذات شقيْن، دعوته إلى التوحيد ثم مطالبته برفع يد البطش عن الأقلية الإسرائيلية التي استوطنت مصر منذ زمن يوسف عليه السلام، أي رسالة أخروية ودنيوية في نفس الوقت، جاء لتحرير الضمائر وكذلك لتحرير الشعب، فهي إذًا مهمة دينية وسياسية كُلف بها هذا النبي الكريم، فأما الأولى فقد أتمّها بإقامة الحجة البالغة على فرعون وقومه وأما الثانية فقد اكتملت بإخراج أفراد الأقلية المضطهدة من مصر إلى حيث النجاة والأمان.
وهناك ثالثة حسنة جميلة تكتمل بها حركة موسى هي تقديمه خدمة إنسانية لفتاتيْن منعتهما الحشمة والخلق الرفيع من مزاحمة الرعاة على مورد الماء، فقام بسقيهما من غير طلب منهما ولا انتظار لجزاء أو شكر، وبعد بذل هذا الجهد وحلّ المشكلة توجّه إلى الله بالدعاء ليمدّه بأنواع الخير فجاءت الاستجابة سريعة، وكأن الهدي القرآني يعلّمنا أن كمال الدين في إسداء الخدمة للناس ونجدتهم.
• ذو القرنين نموذج آخر: يدلّ السياق القرآني على أن ذا القرنيْن قائد صالح مؤمن بالله واليوم الآخر، ولم تحدثنا الآيات الكريمة عن عبادته وإنما عن أعماله الدنيوية الكبرى، وفصّلت رحلته الثالثة حيث طلب منه شعب ضعيف مغلوب أن يصدّ عنه هجمات عدوّ خارجي همجيّ متمكّن يسطو على أرضه، عرضوا عليه المال مقابل ذلك فتعفّف عنه وأمرهم بالانخراط بأنفسهم في العمل لإقامة سدّ منيع يحميهم من الهجوم عليهم، وقد تكرّرت في القصة عبارة ” أتبع سببا ” ثلاث مرات للدلالة على الأخذ القويّ بالأسباب انسجاما مع سنن الله التي تحكم المجتمعات البشرية بغضّ النظر عن عقائدها.
• عبرة : من المفروض أن هذا التأصيل للعمل الدنيوي قد فُرغ منه منذ زمن بعيد لكلّ التخلف الفكري ألقى بظلاله على طوائف من المسلمين أصبحوا يؤصلون للانسحاب من معترك الحياة العامة ويحصرون الصلاح في الفرد واستقامته الروحية واكتفائه بإتقان دائرته الضيقة على أن يتولى الله تبارك وتعالى تدبير حياة المسلمين كما يشاء، وأفرغوا التوكل – ذلك الخلق القلبي العظيم – من معانيه الحقيقية حتى صار عين التواكل، وكان ينبغي – وما زال – على مؤسسات التربية والدعوة والتوجيه أن تنتج مناهج متكاملة تبرز مهمة المسلم في الحياة ووجوب قيامه بمهام الخلافة والعمارة التي تتجاوز المجهود الفردي لاستيعاب المجتمع والأمة، كما تحسم قضية هي غاية في الخطورة وهي أن مرجعيتنا الدينية لا تتلاءم مع الحياة البسيطة التي كان عليها الناس وقت التنزيل وإنما تستوعب بأحكامها وقيمها وأخلاقها وتشريعاتها جميع أشكال الحياة ومختلف البيئات مهما تعقدت صور النشاط الإنساني وتكاثرت المستجدات، وهذا يوجب على المتمسكين بالدين الإقدام بدل الإحجام والدخول القوي المتنوّع في الحراك المجتمعي للقضاء على الفصام النكد المتمثل في اكتفاء أهل الدين والصلاح بتنمية الجانب التعبدي الفردي وترك ساحة العمل السياسي والإداري والمالي والأدبي والفني للعلمانيين واللا دينيين، وهذا ما أورث أجيالا بأكملها سلبية قاتلة في الميدان الاجتماعي مع مبالغة واضحة في التعبد الفردي.
إن الإسلام في حاجة إلى رجال ذوي صلابة في الدين وخلق واستقامة وكفاءة عالية يتزاحمون بكفاءتهم على مناصب الضباط السامين في الجيش وكبار المسؤولين في السياسة والتسيير الإداري والاقتصادي ورجال الأعمال والخبراء في مختلف التخصصات التي تنتظم حياة المجتمع والسلك الدبلوماسي يساهمون عبر المؤسسات الرسمية في نصرة الإسلام وخدمة الأمة، بذلك يؤدون واجبهم ويضعون لبنات التمكين ويعيدون النصاعة لصورة ديننا الحنيف حتى نعلم نحن والآخرون أن المسلم أداة لطاعة لله ولحياة كريمة نظيفة فيها التقدم والإبداع والازدهار خلافا لما يصوّروننا عليه من عطالة وتخلف وسلبية.