الحضارة الغربية بين تزييف التاريخ و غرور الاستعلاء
بقلم : الدكتور إبراهيم نويري ــ كاتب و باحث جامعي
تُعتبر سمة “المركزية” خلفية أو قاعدة من القواعد الثابتة أو المركوزة ، الثاوية في تلافيف بنية و جوهر وعُمق ثقافة الغرب وسيكولوجيته !! .. ودليل ذلك واضح تماماً للقارئ وللمتابع العادي، بلْهَ الناقد المدقّق المتابع المتفحّص، فمثلا إذا تغيّرتْ أو تزحزحتْ ـــ داخل تركيبة البنية المذكورة ـــ مواقع الإيديولوجيا أو مفاهيم الإقتصاد أو مقتضيــات السياسة، أو غير ذلك من المجالات والمفاهيم .. فإن هذا البعد ــ تمركز الغرب ــ يظل على الدوام قاراً ثابتا، لا يُسمح له مطلقا بأي هامش من الحركة أو الحلحلة، مهما بلغت وطأة المتغيرات المرافقة لصيــرورة حركة الواقع وللمنجز الإنساني والحضاري !!
أعتقد أن هذا النزوع الثقافي الغربي يترجم عن عقــدة عميقة في أغوار بنية التكوين النفسي والفكري والانثروبولوجي للمؤسسة الغربية والإنسان الغربي، فمنــذ بدايات المسار التاريخي ظل الغرب يعتقد بأنه يمثل المركز، وأن غيره يمثلون الأطراف، و أنه الصـوت وغيره الصدى !! وأنه القطب وغيره الآفاق القصيّة !!
ونحن حين نقوم بمراجعة تاريخية سريعة بهذا الصدد، سوف نجد بأن الذاكرة الثقافية الغربية مترعة بخيالات الشعور والإحسـاس بالقيمة “الإستثنائية” لمكانة الغرب الحضارية والإنسانية ولإنسانه ومُثله وقيمه؛ ومقتضى هذا الشعور أو هذا الإحساس من الناحية العملية، يتمثل في ضرورة وحتمية إلزام الآخر الحضاري بالإندراج الطوعي أو القهري تحت ظلال المركز، والتهوين من مقوّمات وجوده المستقل أو المتميّز، ومن خصوصياته الثقافية والحضارية ونحوها؛ إنّ هذا الشعور الثقافي الاستعلائي المقيت هو الذي يغذّي الآن الاتجاه المتسارع نحو تجسيد فكرة مشروع العولمــة “GLOBALIZATION” .. أي جعل النمط الحضاري الغربي نمطاً مثالياً استثنائياً ينبغي استنساخه وتمثله والإقتداء به، في كلّ مكان وفي أيّ ركن من أرجاء المعمورة، وفي مختلف الأنشطة والأصعدة أيضا: الثقافيـــة منها والسياسية والفكرية والاقتصادية ونحوها.
صيحات الاحتجاج و التحذير:
لذلك كان من الطبيعي في هذا السياق المعتّق بالتوتر الحضاري والثقافي، الذي تحتوشه من كافة الجهات عواملُ التدافع المشروع وغير المشروع، أن تبرز صيحات التحذير وأصوات الاحتجاج، ضد هذه النزعة الممهورة والمُفعمة بروح الاستكبار والاستعلاء والتميّز الموهوم، وضد هذه الروح المعتكِزة على ميتافيزيقا تميّز و تحضّر ورقي “الإنسان الغربي”و”الحضارة الغربية”و”الثقافة الغربية” وبالتالي القيمة الاستثنائية لهذا الإنسان وهذه الحضارة و الثقافة…
ولقد تشكّلت تلـك الصيحات والأصوات في صورة تكتّلات أو تنظيمات، وفي صورة حركات سياسية وتيارات اجتماعية وثقافيــة تدعو للعودة إلى الذات وإلى ضرورة التمسّك بمقومات الهُوية، وفي صورة مشروعات فكرية، أخذت أبعادا حضارية وصورا إنسانية شتى، بما في ذلك تلك التي برزتْ من رحم النسق الثقافي الغربي نفسه. ويمكن لنا هنا أن نشير باقتضاب لبعض الكتابات الاحتجاجية والنقدية التي ظهرت خلال عقود متفرقة من القرن العشرين الميلادي، مثل ما كتبه الفرنسي”رينيه دوبو” René Dobo” في كتابه المشهور ( إنسانية الإنسان ) .. الذي يقول في إحدى صفحاته مهاجما بُعد خلوّ “القصد” أو “المعنى المُقْنِع” – حسب تعبيره – في نسق حياة الحضـارة الغربية، ومدى إندياح مساحات الاضطراب والقلق في تركيبة نفسية إنسانية، حيث الجذور العميقة ” للقلق موجودة في البنية النفسية للفرد، كل فرد من أفــراد هذه المجتمعات؛ وأكبر مشكلة حادة في الحياة المعاصرة هي في الغالب شعور الإنســان أن الحياة قد فقدت معناها … إن الحياة الشاذة التي يعيشها عامة الناس الآن، تخنق وتعطّل التفاعلات الحيوية الضرورية لسلامة الإنسان العقلية “.
هكذا يقرر العالم “رينيه دوبو” وهكذا يضع بصمته عن السمة العامة التي تطبع أنموذج الحياة في الغرب والمجتمعات الغربية.
و من أبرز الدراسات الاحتجاجية الناقدة أيضا ما كتبه الفيلسوف الألماني ” أوزولد شبنجلر” Oswald Chbangelr” في كتابه ( أفول الغرب ) الذي كتبه في الفترة الممتدة بين 1918م و 1922م ، كما نجد أيضا الأمريكـي ” تشارلز فرنكل” “Charles Frankel” صاحب كتاب ( أزمة الإنسان الحديث )، والإنجليزي “كولن ولسون” Colin Wilson في كتبه ذائعة الصيت: (اللّامنتمي) و(رحلة نحو البداية) و(سقوط الحضارة) الذي بدأ مقدمته بقوله: “مرّت سنوات وأصبح الشخص القلق الذي سميته (اللّامنتمي) بطل عصرنا، وكنـت أنظر إلى حضارتنا نظرتي إلى شيء رخيص تافه، باعتبار أنها تمثل انحطاط جميع المقاييس العقلية”. وهكذا أيضا يقرر ولسون.
وهناك أيضا الفرنسي إندريه مالرو Andre Malraux ( 1901 – 1976 م ) في كتابيه: ( إغراء الغرب ) و( مصير البشر ) الذي دعا الصينيين إلى الحفاظ على هُويتهم الثقافية وعدم وقوعهم في شَرك غواية الحضارة الغربية، كما نصح الآسيويين جميعاً بعدم نسيان أنهم أصل الحضارات الإنسانية، و أنّ عليهم واجب الدفاع عن هذا الشعور من خلال الوقوف في وجه المنازع الاحتوائية والاستقطابية المعبّرة عن قيم الحضارة الغربية …
علماً أن قائمة هــؤلاء النقاد الغربيين طويلة قد تحتاج لدراسة مستقلة مطوّلة أو مسهبة، لما تنطوي عليه أفكارهم من دلالات هامة وأبعاد عميقــة في نقد ومراجعة انعكاسات الحضارة الغربية وفكريتها على نفسية وحياة الإنسان في الغرب، بل وعلى المصير الإنساني برمته.
انعطاف نحو معادلة التوازن:
ونظراً لما تمّ ذكره لا يستغرب المتابع المتفحّص والباحث الجاد انعطاف الكثير من المفكرين والعلماء والفلاسفة والفنانين من أبناء الحضارة الغربية تجاه الإسلام والثقافة الإسلامية، بدافع البحث عن بدائل نسقية مُقنعة للعقل والفكر والضمير، ومُشبِعة لمعادلة التوازن بين مطالب الجسد وأشواق الروح.
ومن بين هؤلاء المنعطفين نحو الإسلام الفيلسوف الفرنسي الراحل رجاء جارودي Roger Garaudy( 1913 ــ 2012 م)؛ فقد كان فيلسوفا كبيراً دارسا للتاريخ والحضارات الإنسانية، فضلا عن تعمقه في إيديولوجيات ومذاهب وأدبيات الحضارة الغربية، تلك التي خرج هو نفسه من رحمهــا الثقافي والفكري؛ ففي معظم مؤلفاته ــ خاصة تلك التي كتبها بعد إسلامه ــ يهاجم جارودي مركزية الحضارة الغربية ونزوعها القهري الاحتوائي ضد الآخر الحضاري، واستعمالها لكافة مناهج وأدوات تزييف التاريخ.
وقد أفصح في كتاب له يُعد من أبرز مؤلفاته الأخيرة التي أثارت جدلاً طويلاً، هو كتاب ( أمريكا طليعة الانحطاط: كيف نواجه القرن الحادي والعشرين) عن الأبعاد والخطوط العريضة التي يتألف منها مشروعه الفكري، الذي يبشر من خلالـه بمنهجية جديدة لحوار الحضارات والثقافات والاتجاهات، ونبذ فكرة الصراع القائمة على النزعــة المركزية واستعمار التاريخ ــ كما يعبّر ــ وهي فكرة جوهرية في تركيبة الحضارة الغربية؛ فأمريكا ــ في نظر جارودي ــ تعتبر أقوى أنموذج لحضارة الغرب الآن، إنما تَحدّدَ وجودُها التاريخي والجغرافي بمَعلمَين رئيسيين هما: سحق الهنود الحمر واقتلاعهم مــن أرضهم وسلبهم مصادر ثروتهم لاسيما القطن والثروة الحيوانية الكبيرة المتنوعة .. ثم العبودية التي تمثل انتحاراً حقيقياً لقيمة إنسانية الإنسان، إذ إنّ أمريكا في بداية تأسيسها العنيف والقهري عمدت إلى تشغيل أفـواج الرقيق التي تمّ استجلابها عنوة من إفريقيا، ومن بعض جزر الأطلنطي المأهولة بذوي البشرة السـوداء.
ويطلق جارودي على هذه المأساة مصطلح “الملحمة العنصرية” وهي ملحمة تُشكّل جـوهر الثقافة الأمريكية المرسّخة في الكثير من أفلام العنف الاستعراضية المشهورة؛ لكن غارودي يسحب هذه السمة، أو الصفة الفارقة على كيان الحضارة الغربية كله، مستندا على دراسة التاريخ ومقارنة الأبعاد والأسس المؤثرة في المضامين الروحية والفكرية والإنسانيـة، للحضارات البارزة في تاريخ البشرية.
وفي الأخير يدعو جارودي إلى ضرورة اندلاع حركة عصيان حضاري، ضد مخاطر الهيمنة الأحادية والتحكم المركزي في آليات النظام العالمي القائم والذي يُراد له التمكين والاستمرارية.
إن هذا الوضع ــ حسب قراءة جارودي رحمه الله ــ لا يمكن له أن يتجذّر خلال القرن الحادي والعشرين؛ ومن ثمة فإن المجابهة ملقاة على عاتق النُّخب المثقفة، أو إنتل جنسيا الحضارات، وذلك يمثل مساهمة على الصعيد الثقافي لتعزيز توجّه استقلال الشعوب والمجتمعات فعلياً، وحماية الخصوصيات الثقافية والهُويات الفكرية والحضارية من الذوبان والاندثار، ومواجهة إشكالية التشكّل وفق إرادة الآخر الحضاري المهيمن .. فالرهان إذن سيكون قائما بحدّة على هذا المستوى خلال النصف الأول من القرن الحادي والعشريـن، لكن لا ضمان ــ بنظر جارودي ــ لتحقيق المغايرة الحضارية الفعلية إلا بوضع حد نهائي للتاريخ الحيواني للإنسان ــ كما قال ــ والذي تجسّده اليوم وترسّخ نمطه القهريةُ الحضارية الغربية.