تفاصيل عن تدشين دار الحديث
لقد كان يوم 27 سبتمبر 1937 يوما مشهودا في تاريخ الجزائر عامة وتلمسان خاصّة، حيث توافد الناس من كامل القطر الجزائري لحضور افتتاح دار الحديث، وكان عددهم ثلاثة آلاف شخص منهم سبع مائة ضيف، والبقيّة من أهالي تلمسان.
وخرج يومها أهالي المدينة كبارا وصغارا، رجالا ونساء، مواطنين وبعض المستعمرين للقاء زعيم النهضة الإصلاحية ورئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريّين، الشيخ عبد الحميد بن باديس.
وصل الشيخ عبد الحميد بن باديس على الساعة العاشرة والنصف إلى محطّة القطار، وكان مرفوقا بوفد رسميّ من العلماء، واستقبل بحفاوة كبيرة تليق بمقامه من قبل الشيخ البشير الإبراهيمي ورفقائه من رجال الإصلاح بتلمسان والمستشارين البلديّين، ومشى أعضاء الوفد راجلين متتبّعين الطّريق الذي رسم لهم وهو (محطّة القطار/ باب سيدي بومدين/ المَدْرَسْ / الشّارع الوطني، المعروف بشارع العقيد لطفي الآن، حتّى مدرسة دار الحديث).
واصطفّ على طول الطريق شبّان ينتمون إلى الحركة الوطنيّة (من حزب الشّعب) وكوّنوا جدارا (سلسلة) عن يمين الشارع ويساره ، متماسكي الأيدي، وعلى ذراع كل منهم منديل أخضر(Brassard) لتسهيل عملية المرور للشيوخ، فأعجب الوفد بهؤلاء الشباب ونظامهم، وكان الكل يردّد: “سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر”، وزغاريد النساء مدوّية من الشرفات حتّى الوصول إلى باب المدرسة. وقد رفضت اللجنة المنظّمة مساعدة البوليس الفرنسي لتنظيم المسيرة، لكن هذا الأخير أحضر جنودا سنغاليين احتياطا وتركهم داخل ثانوية “Collège Deslane” ابن خلدون حاليا.
” سار الموكب في نظام وخشوع وكان يظم حوالي 3000 شخص مـن بينهـم 600 إلى 7000 من الجزائر وقسنطينة ونواحي تلمسان. كما حضر حوالي ثلاثة من تونس وحوالي خمسة عشر من المغرب وثلاثة من الصحفيين العرب، وصحفي من جريدة الأمة، ومدير جريدة العدالة، والثالث من الجزائر”.
“كان على باب المدرسة الشيخ محمد مرزوق يستقبل الضيوف وكان الجمع غفيرا حول المدرسة وفي الأزقة المجاورة والكل جرى على أحسن ما يرام دون تسجيل لأي حادث، بينما كانت مجموعة من فرقة الكشّافة الإسلامية بتلمسان تقف عن يمين باب المدرسة ويساره يرحّبون بالضّيوف وهم ينشدون نشيد “مرحبا أهلا وسهلا بكم”.
وقد تقدّم أربعة من تلامذة مدرسة دريبة زرار، أعمارهم ما بين ثمان سنوات وعشر، وفي أيديهم باقات من الزهور قدّموها لكبار الشيوخ القادمين ضمن الوفد. هؤلاء التلاميذ هم على التوالي: مولاي الحسن رحمون، والأمين بريكسي ومحمد طالب (ابن الشيخ الإبراهيمي)، والرابع لا أعرفه ولا أذكر اسمه. أمّا الشيوخ الذين قُدّمت لهم الباقات هم: الشيخ عبد الحميد بن باديس والشيخ الطيب العقبي والشيخ محمد خير الدين، والشيخ العربي التبسّي.
وقد كان هناك اثنان من شبّان دار الحديث يحملان آلتي تصوير “”Camera، وصوّرا المسيرة من محطّة القطار إلى باب المدرسة، وهما: الغوتي بجاوي، ومحمد قوار. وقد أخذت صورة تذكارية للوفد أمام باب المدرسة، العلماء في الصفّ الأوّل والجمهور في الصفوف الأخرى، وقد كان عمري يومها سبع سنين ونصف [خالد مرزوق]، وكنت على بعد خمسة أمتار من باب المدرسة، وشهدت المشهد كلّه وكان رائعا، وقد أثّر في نفسي تأثيرا كبيرا”.
وقد روى الشيخ محمد شيعلي أنّ مصطفى هدّام أخبره أنّه سمع بعض المعلّمين بالفرنسية يوم الافتتاح يقولون بأنّ جمعية العلماء هي عبارة عن قنبلة موقوتة، ستظهر نتائجها بعد عشرين سنة.
“وتلاحقت الوفود، وتجمّعت أمام مبنى المدرسة، ووقف الشيخ البشير الإبراهيمي بباب المدرسة يخاطب الرئيس ابن باديس – وهو يناوله المفتاح – بهذه الكلمات البليغة: “أخي الأستاذ الرئيس: لو علمت في القطر الجزائري بل في العالم الإسلامي رجلا له يد على العلم مثل يدكم، وفضل على الناشئة مثل فضلكم لآثرته دونكم بفتح هذه المدرسة، ولكني لم أجد. فباسم تلمسان وباسم الجمعية الدينية بالخصوص أناولكم المفتاح لتفتحوها، فهل لهذه المدرسة أن تتشرّف بذلك؟” وتناول الأستاذ الرئيس المفتاح وقال: “بسم الله الرّحمن الرّحيم ثمّ على اسم العروبة والعلم والفضيلة أفتح مدرسة دار الحديث، ربّنا أنزلنا مُنزلا مباركا وأنت خير المنزلين، ربّنا أدخلنا مُدخل صدق وأخرجنا مُخرج صدق، واجعل لنا من لدنك سلطانا نصيرا. جاء الحقّ وزهق الباطل إنّ الباطل كان زهوقا”. ثمّ فتح الباب ودخل، ودخل خلفه العلماء والضيوف، وبقيت جموع غفيرة من أهالي تلمسان لم تسعهم البناية، وآثروا ضيوفهم عليهم.
بقيت هذه الجموع تصيح خارج المدرسة: ابن باديس! ابن باديس! نريد أن نرى ونسمع ابن باديس! فأطل عليهم هو والإبراهيمي والعلماء من الشرفة في الطابق الأول، وخاطبهم قائلا: “يا أبناء تلمسان، يا أبناء الجزائر. إن العروبة من عهد تبع إلى اليوم تحييكم. وإن الإسلام من يوم محمد صلّى الله عليه وسلم إلى اليوم يحييكم. وإن أجيال الجزائر من هذا اليوم إلى يوم القيامة تشكركم وتثني عليكم وتذكر صنيعكم بالجميل. يا أبناء تلمسان كانت عندكم أمانة من تاريخنا المجيد فأديتموها فنعم الأمناء أنتم فجزاكم الله جزاء الأمناء والسلام عليكم ورحمة الله”. ثمّ عاد العلماء إلى المدرسة، وفي قاعة المحاضرات اعتلى ابن باديس وصحبه المنصّة وتكلم الشيخ الإبراهيمي فقال: “الفضل في إنشاء هذه المدرسة لا يرجع لأحد غير جمعية العلماء. فكل فضل لهذا العاجز الضعيف هو قطرة من بحر فضل جمعية العلماء” ثمّ أخبر الشيخ الإبراهيمي الحاضرين بأن الرئيس ابن باديس سيفتتح الكلام في دار الحديث بدرس قيم يلقيه عليهم الآن في الحديث النبوي الشريف.
وافتتح ابن باديس الدرس بحمد الله والصلاة على نبيه صلّى الله عليه وسلم. ثمّ روى حديثا بالسند المتصل بالبخاري ومسلم، وهو قوله صلّى الله عليه وسلّم: “مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا، فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها النّاس، فشربوا وسقوا وزرعوا ” أو ورعوا “، وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله، ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلَّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به” متفق عليه من حديث أبي موسى الأشعري. وأفاض في شرحه بطريقته التي اختصّ بها وعرف بها، وأثناء كلامه عن قوله صلّى الله عليه وسلم: ” فعلِم وعلَّم” أخرج من جيبه خمس مائة فرنك إعانة رمزية منه للمدرسة. وبعد انتهائه من الدرس تبارى الناس في البذل والتبرع بما لديهم في سخاء وكرم نادرين، كما شارك النساء بعد ذلك بتقديم جواهرنّ وحليهنّ”.
خالد مرزوق
مختار بن عامر