الشيخ محمد بن عبد الرحمن الرايس رحلة شاعر في رحاب جمعية العلماء المسلمين الجزائريين 1

الحفناوي بن عامر غول الحسني*
منذ أكثر من عشرين سنة كتبت مقالا حول الشيخ محمد بن عبد الرحمن الرايس في مجلة “صوت السهوب” لما اطلعت على جوانب من شخصيته ومازلت إلى غاية اليوم أرى أن هناك إجحافا في الترجمة له خاصة وأن هناك الكثير ممن هم في مرتبته العلمية والأدبية قد ترجم لهم وكتبت عنهم الكتب وانتشرت وذاع صيتهم. وسألت نفسي لماذا دائما هناك إجحاف في حق أعلام المناطق الجنوبية؟ ثم نشرت بعض النصوص حول جمعية العلماء المسلمين وفرعها ومدارسها وشيوخها عبر حلقات (4 صفحات) بجريدة “البصائر” و7 حلقات عبر جريدة “صوت الأحرار” وفي جرائد أخرى مثل “العالم السياسي” و”اليوم ” ومجلة “التبيين” التابعة لجمعية الجاحظية. ورغم ذلك مازالت شخصية الرايس محمد وهو شاعر جمعية العلماء المسلمين مازالت مغمورة. وأنا أتساءل لماذا لا ينفض الغبار عن تراثه الضخم مثله مثل أولئك الأعلام وهم من كانوا مرجعا في الفتوى أو تخصصوا في علوم أو برزوا في فنون أدبية من شعر ونثر، وكانت لهم الريادة فيهما، أو كتبوا في الجرائد آنذاك والى غاية اليوم لم يأخذوا حقهم من الدراسة؟ ومن بين هؤلاء مترجمنا الذي جمع بين العلوم الشرعية واللغوية والأدب والصحافة، وكان صديقا للإمام العلامة الشيخ عبد الحميد بن باديس وقرأ في الزيتونة، وهو من شيوخها، وكتب عنهم ورثاهم بقصائد لا تزال مجهولة. كما كان مدرسا في مدارس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين متنقلا بين المغير ومسعد وتقرت وعين تموشنت وطولقة والجلفة وتيارت ومسؤولا في مدارسها.
أردت من خلال هذا المقال أن أُطلع القارئ الكريم على الجانب الشعري للأستاذ محمد الرايس من خلال الكثير من القصائد باعتبار أن الرايس محمد شاعرا قال في كل أغراض الشعر خاصة المديح والرثاء، مع العلم أنه رثى شيخه وصديقه الإمام ابن باديس بأكثر من عشر قصائد ما زال أغلبها محتفظ به إلى اليوم وقد تضمن بعضها كتاب الدكتور سالم علوي –وهو من تلاميذ الشيخ الرايس– والمعنون بـ ” رايس محمد بن عبد الرحمن المسعدي. أديب وشاعر ونماذج من شعره”. ولا بأس أن نُعرِّف القارئ بنبذة مختصرة من حياة الشيخ ثم نعرج على أشعاره التي قالها في رحلته في رحاب جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، مشرفا ومدرسا من مدينة المغير بالجنوب الكبير إلى تلمسان عاصمة الدولة الزيانية، واليوم أقدم للقراء بعض النصوص المتزامنة مع مناسبة الاحتفال باليوم العالمي للغة العربية، الذي أحيي قبل أيام.
فهو الشيخ محمد عبد الرحمن بن محمد المعروف بـ محمد بن عبد الرحمن المسعدي والمشهور باسم (محمد الرّايس). ولد الشيخ الرايس سنة 1912 بمسعد جنوب الجلفة بالحي العريق (دمّد) – الذي أسسه الرمان سنة 198 ميلادي – توفي والده وهو لم يتجاوز السّنتين ثم سرعان ما غادرت أمه الحياة شهيدة عقب النفاس، فكفله خَاله عمر بن بلقاسم وجدته لأمه، ومن الصدف أن يتعلم على أيديهم القرآن الكريم لأنهما- خاله وجدته – كانا يعلمان القرآن. كما تعلم العربية ولو أنه لا يُعرف من درسه في تلك الفترة إلى غاية بلوغه سن السادسة عشر، عندما التحق بدروس الشيخ العلامة عبد القادر بن إبراهيم المسعدي، الذي أثر فيه وفي تكوين شخصيته وغرس فيه بذور الحركة الإصلاحية العلمية فلازمه وتعرضا معا للمضايقات والتعنيف ثم عرفا السجن معا بعدما أُشيع أنهما من أنصار “العقبية” نسبة إلى الشيخ الطيب العقبي، المعادية لشيوخ الطرق لما عرف عنها من خرافات وشعوذة. ودبر لهم حاكم مسعد وقاضيها –يومها- وبعض شيوخ الطرق المكائد والدسائس، وبدخوله السجن كانت له محاولات شعرية منها القصيدة المشهورة والمنشورة والتي يثني فيها على جماعة الإصلاح بالجلفة حين فتح النادي الإسلامي الشباني سنة 1937 والتي يقول فيها:
يا سائق العربات ســوق إجـهاد
مهلا حضيـــــت بإسعاف وإسعاد
بالله إن دمــــــــت في أمن وعافية
يمّم ربى الجــلفة الغرّاء يا حادي
عرّج علــى فتية بــها ذوي كرم
أبلغ إليهم سلام الوامــق الصّادي
وانــزل بناديــهم الميمون فهو لنا
رمـــز لإحــــياء مجد أمّة الضـــادّ

وعام بعد ذلك أي سنة 1938 غادر إلى قسنطينة ملتحقا بدروس العلامة ابن باديس بالجامع الأخضر، فتقرب منه ودرس عليه إلى غاية وفاة الإمام في 16 أفريل 1940. فعزم على الرحيل إلى تونس وانتسب إلى جامع الزيتونة ثم عاد إلى الجزائر حاملا شهادات عليا في تحصيل العلوم، وقد قال الكثير من القصائد في فترة وجوده بتونس حول الشيخ الطاهر ابن عاشور وحول شيوخ الزيتونة وفي الرثاء والمديح ومنها قصيدة قال فيها عند عودته:
ولمّا درسنا كل فرض وسنّة
وفاز بنيل القصد من هو فائز
شددنا إلى الترحـال كل حقيبة
وسالت بأعحال القطار المفاوز
وعند عودته التحق بمدرسة الإخلاص الإصلاحية بالجلفة فعين مديرا ومعلما سنة 1946، ثم في عين تموشنت. وفي 25/12/1948 عين مديرا بمدرسة المغير، وبمدرسة الفلاح بوهران مديرا وخطيبا وواعظا ليحول إلى تيارت في 5 أكتوبر 1951 ويعين مديرا. ويعود إلى الجلفة، ثم طولقة إلى غاية 1954 تاريخ اندلاع الثورة التحريرية المباركة، حيث انتقل إلى مناطق عديدة من الوطن شماله وجنوبه وشرقه وغربه، معينا من طرف جمعية العلماء المسلمين كمدير ومعلم لمدارسها ومكلف بالوعظ وإلقاء الدروس في بعض المساجد والنوادي. وقد تعرض في سبيل ذلك إلى النفي والسجن والتعذيب مما أثر على صحته حيث أصيب ببعض الأمراض المزمنة، ولكن ذلك لم يثن عزمه وبقي على موقفه ثابتا في سبيل أداء رسالته، وفي ذلك يقول :
إن كنت تنكر ما يـأت العدّو فـقم
بالسّيف لا باحتجاج القول والصّحف
واغش المعارك لا تخش الهلاك فلا
يعطى الحقوق الذي يخشى من التلف
وفي أثناء الثورة التحريرية تعرض للمضايقات من طرف فرنسا وأذنابها، كما كان هدفا لجماعة بلونيس الذين كانوا يضايقونه، فازداد حماسه الوطني فعمل على نشر الوعي وتهيئة الرجال والتحريض ضد الاستعمار ليلقى عليه القبض ويزج به في السجون حيث تعرض لشتى أنواع التعذيب.
وبعد الاستقلال عين مدرسا بالمدية ثم عاد إلى الجلفة إلى غاية 1966 حيث رجع إلى مدرسة الإخلاص مديرا ومعلما، ثم رقي إلى التعليم الثانوي، بثانوية فخار عبد الكريم بالمدية في بداية سنة 1967 وبقي بها إلى أن توفاه الله يوم الاثنين 28 من جانفي 1968 ودفن بمسقط رأسه. وقد تتلمذ على يديه العديد من الأعلام والشخصيات التي تركت بصماتها هي الأخرى في الساحة الثقافية والمؤسسات التعليمية.
الجدير بالذكر أن الأستاذ محمد الرايس كان يجيد فن الزخرفة والرسم حيث لازالت بعض لوحاته جاثمة في مكانها كمشعل مضيء في سماء الزخرفة المعاصرة شاهدة على عبقريته، وعرف بولوعه بالفلسفة خاصة حيث تطرق إلى الكثير من النظريات خاصة نظرية السعادة ونظريته في لزوم ما يلزم إذ يقول:
لا تعذلني إذا ما عشت في قلق
إنني لم أصب صبرا في الزلق
وكان الشيخ بالإضافة إلى أعماله يدرس الأجرومية والشيخ خليل في مسعد ويفسر القرآن الكريم في شهر رمضان ولم يكن نشاطه السياسي ينحصر في انضمامه إلى جمعية العلماء بل كان مؤمن إيمانا قويا بأن العمل الثوري الجاد والمنظم مكملا للعمل الفكري. وهكذا نراه يجمع وينهج منهج الشيخ جمال الدين الأفغاني بالرجوع إلى الأصالة ومنهج الشيخ محمد عبده العلمي.
كما كان متعاطفا مع حزب الشعب الجزائري وقد قال له الشيخ محمد البشير الإبراهيمي ذات يوم: “أنت حر في أفكارك وميولاتك السياسية فاختر لنفسك ما يناسبك وما تراه صوابا “. كما عبر عن ميوله السياسي في إحدى قصائده التي يعلن فيها فرحته بانتصار حزب الشعب الجزائري في انتخابات 1948:
درها صرفنا فنصر تحققــــــــــا
ونجم انتصار الحريات تألـقا
وقل إن حزب الشعب أصبح سيدا
ولا يخشى لوما من حسود تمشدقا
كما ترك بعض التآليف ما زالت مخطوطة منها كراس حول “تعليم العربية في المناهج المدرسية، وفتاوى وقصائد شعرية. وقد امتلك الشيخ ملكة قوية في نثر ونظم الشعر في أغراض مختلفة إذ تغنى بكامل الصور الشعرية مع أنه امتنع عن الهجاء. أما أول محاولاته الشعرية فكانت في السجن سنة 1937 حيث أبى إلا أن يشارك إخوانه بمناسبة إنشاء نادي للشباب بالجلفة كما ذكرنا سابقا:
يا سائق العربات سوق إجهاد
مهلا خطيب بإسعاف وابتعــاد
وكان أول أثر له على جريدة البصائر العدد 55، وهو عبارة عن رد على قصيدة نشرتها البصائر تحت عنوان البصائر (تحي قرائها) فرد عليها الشيخ:
بلغـنا تحيــة منك يا من
مخضت بصحبها لكل العبــاد
ودعت لاتباع نهج رسول الله
أهل القرى وأهل البــوادي
بكتاب وسنة وبيــــــــــــان
قد حكى السحر في امتلاك الفؤادي

Exit mobile version