الحادث والتاريخ للأستاذ مالك بن نبي العدد (11) ذو القعدة (1385هـ) فبراير (1966م) مجلة الوعي الكويتية

لقد كان التاريخ إلى حد القرن العشرين شبه متحف، حيث كان يأتي المؤرخ ليتزود بالمعلومات عن شعب ما وذلك في زاوية معينة مخصصة لهذا الشعب وسياسته وفنه وأدبه وفلكلوره ذلكم هو التصور التقليدي للتاريخ.
بيد أنه كان من الممكن بالنسبة للمؤرخ أن يلاحظ في بعض الأوقات السمة المشتركة، وصلة الرحم بين بعض زوايا المتحف، فهو إذ ذاك أمام “وحدة” تاريخية معينة، ولقد يسمي ج.أ.توينبي هذه الوحدة بحقل الدراسة أو مجال البحث.
ومجال البحث هذا عبارة عن المساحة التي يتم فيها النسيج التاريخي بفعل حوادث تجد تفسيراتها وغاياتها، وأسبابها، ومسبباتها في هذا المجال أو الحقل.
وهكذا يوسع توينبي التصور التقليدي توسيعا ملحوظا يعمقه، وذلك بتطعيمه بمفهوم “مجال البحث” الذي يطيح بالإطار الوطني، حيث كان ينحصر تصور المؤرخ اليوناني “توسيديد”.
إلا أن الإطار الجديد الذي يقترحه المؤرخ الإنجليزي الكبير، كان قد تداعى هو الآخر خلال القرون تحت وطأة دفع حوادث تاريخية أقوى وأكثر تشابكا من أن نلتمس لها تفسيرا، فيما يسميه المؤرخ الكبير بمجال البحث.
فسقوط الدولة الرومانية مثلا ظاهرة ينسبها المؤرخون إلى موجة المهاجرين العارمة التي تدافعت على شعوب الشرق الأوروبي، فدفعت بهم إلى غزو الغرب اللاتيني، ويفسر، فعلا، الحادث في مشكلة كهذه في نطاق “مجال البحث الأوروبي”، بيد أننا إذا ذهبنا بالتحري مذهبا أبعد بأن نطرح هذا السؤال: ترى كيف نشأت هذه الموجة التي يسميها المؤرخون الألمان “الفولكار فاندرونغ”.
أي موجة الشعوب، هي الأخرى؟ ففي الحال يحطم سؤالنا هذا نطاق ما يسميه المؤرخ الإنجليزي بحقل الدراسة لأن الظاهرة التي كانت إلى الآن شيئا أوروبيا تصبح فجأة “حدثا” آسيويا. وبالفعل فإن تداعي أسرة مالكة صينية قبل ذلك بقرون هو الذي دفع قبيلتين منغوليتين على المسارعة للنهب والسلب بحيث اصطدمتا، فكان لاصطدامهما أثره البعيد في دفع شعوب الشرق الأوربي في التيار المسمى “موجة الشعوب” أو “الفولكار فاندرونغ”. فها هنا حدث معبر على تصور تاريخ عالمي على مستوى ذلك الزمن.
وهناك حدث آخر وقع بعد ألف عام من ذلك لا يقل كشفا عن التصور التاريخي العالمي في العصور الوسطى، ذلكم هو تدخل تيمورلنك الذي غير مجرى التاريخ، لأن حفيد جنكيز خان قد ظهر بالضبط في الوقت الذي يستعد الأمير العثماني بايزيد وملك القبيلة المغولية المسماة بالقبيلة الذهبية توغطاميش أحدهما في الغرب والثاني في الشرق، لغزو أوروبا تلك القارة التي كانت تنفض عنها غبار القرون الوسطى، وأخذت تدخل طريق النهضة.
وهكذا ينقذ عمل تيمورلنك جميع آمال هذه النهضة التي تشكل من غير منازع المقدمة التاريخية لعصر الذرة الذي نعيش فيه.
هل تيمورلنك جد عصرنا؟ فهذا تصور لم نعهده في التاريخ وبزيادة على ذلك فهو تصور لا شك أنه كان يغيب عن وعي الأمير التتاري نفسه.
وما قيمة معركة مارينيان على سبيل المثال إذا قيست بأحداث على هذا المستوى من التأثير العالمي؟ وعلى هذا يبدو لنا أن التاريخ نسيج معقد مما هو عارض وما هو مقدر.
وإنني أتذكر وأنا أكتب هذه الجملة انتقادا وجه إلي في صحيفة باريسية غداة نشر كتاب “وجهة العالم الإسلامي” بأنني أحمل السببية في التاريخ أكثر مما تتحمل، ولو أجبت على هذا الانتقاد لقلت بكل بساطة إنني لست أحمل التاريخ، بل هو الذي يحملني. ولست أرى داعيا لإزاحة البصر عن تصور يفرض نفسه علينا، والواقع أن هذا يستدعي إقامة نظرية كاملة للحادث التاريخي.
إن الحادث عند انقذافه يكون محملا بكل ما تستطيع الطبيعة البشرية أن تودعه فيه من غرض مصلحي وهوى وطموح، وبغض ووهم…إلخ
إنه صاروخ منطلق في الزمان مدفوع بكل ما يحرك الإنسان، ولا ريب أن أثره ذو بال، ولو اقتصرنا على النظر إليه من هذا الجانب البشري، فقد يكون غزوا يغير الخريطة السياسية، أو ثورة تغير حياة أمة، أو ميلاد دولة، أو سقوط أخرى، أو ظهور فن صناعي، أو اختفاء فن آخر.
وكل هذا يحقق ما يكون قد سبق تصميمه وتدبيره عند منشئه، وقد لا يحقق ولكن دائما في إطار “مجال بحث معين”.
لقد كانت الحرب العالمية الأولى حادثا تسببته إدارة التوسع الألمانية –إن وضعنا حادث سراجيفو البسيط جانبا.
تلكم كانت شحنتها التاريخية عند انطلاقه.
وقد كانت الحرب العالمية الثانية حادثا مماثلا أطلقته إرادة القوة “الهتلرية”.
ولكن الصاروخ يذهب إلى أبعد، إنه يخرج بعد انقذافه عن المسار الذي قدره العقل البشري له، فكأني به تتغير شحنته تدريجيا في الطريق، فلم يعد يندفع في الزمان أو التاريخ تبعا لسببية، ولكن بمقتضى غاية، وفي نهاية مستقره وغاية مطافه يصيب الحادث الوجدان البشري، ولا يحدد وقعه في مجال حقل دراسة معين، أي في حياة أمة أو مجتمع، ولكن في مجال شامل للإنسانية.
إن الحرب العالمية الأولى لا تطيح بآل “الهوهانزولارن، والهابسبورغ” فقط، ولكنها تنشئ فكرة جديدة تجسدت في شكل “عصبية الأمم”.
إن وقع الحادث لم يهدم بعض البناءات السياسية فقط، ولكنه ولد مفهوما دوليا للمسؤولية، إلى أن بعض التركيبات الذهنية الخاصة بالقرن التاسع عشر قد تخلفت كما نرى ذلك عندما تتوزع عصبة الأمم المنبثقة من وعي الإنسانية رغيف المستعمرات الأخرى.
إن الحرب العالمية الثانية لم تكتسح المطامح الهتلرية والنظرية العنصرية، فحسب، ولكنها أخرجت إلى الوجود هيئة الأمم المتحدة، وربما يقول حفدتنا إن القنبلة الذرية لم تهدم هيروشيما ونجازاكي، فقط، ولكنها وترت وأرهفت الشعور بالمسؤولية الدولية، فعجلت بتكوين وعي عالمي.
ومن الغرور أن يقال إن هذا الأمر كان يشغل العالم الفيزيائي أوبنهايمر عندما كان في فيافي النيفادا يضع آخر لمسة على القنبلة التي ستهدم هيروشيما.
إن وقع حادث ما أطلقت عنانه الإرادة البشرية يخرج في النهاية عن رقابتها.
أنه صاروخ مقذوف في الزمان يتجاوز دائما تقديراتنا وحساباتنا، الأمر الذي أشار إليه عز وجل في قوله:{وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}[الأنفال/30].
والواقع أن المؤرخين الذين يصنفون التاريخ يعوزهم شيء من الحرية، أو بعبارة أخرى فالتاريخ الذي تهدف إليه إرادتنا يكون دوما دون التاريخ الذي تحققه، فبسبب المنطق الكارتزيائي الذي يقتصر حكمه على الحوادث على النظر إليها من زاوية الأسباب، يغيب على نظرهم جزء أساسي من مدار الأحداث.
وبما أن الصاروخ لا يندفع –في هذا الجزء- بفعل قوى تحصر في مبدأ السببية، ولكنه يخضع فيما يبدو لمبدأ فان، فإن المؤرخين يهملون بهذا جانبا عظيما من فلسفة التاريخ.
مع أن الحادث يحقق معناه الكامل ومؤداه الشامل عندما يبلغ مرساه وغايته في التاريخ، إلا أن اكتشاف هذا الجانب الثاني من معنى الحادث يتطلب من المؤرخ مزيدا من الحرية على ما يمنحه المنطق الكارتزيائي.
وإن إيمانوال مونيي أحد هؤلاء “المتحررين” استطاع بصره أن يرى –على حد تعبيره- شمولا في الظاهرة التاريخية بحيث يأتي كل حدث فيها ليقوم بدوره لخير المجموع ونجاته.
وهذا التصور لا يحيط رغم تعمقه إلا ببعض جوانب الموضوع، فعلينا أن نغوص في قلبه وأن نميز في الظاهرة التاريخية جانبين: الجانب العرضي البشري، والجانب القدري كما يراه مونيي، ولا أظن أن هذا التصور التاريخي يمكن الاستغناء عنه في لحظة بلغت فيها مأساة الإنسانية أشد توترها، حيث نرى بروقا مهددة فوق أعالي جبال الكاشمير ومستنقعات الفيتنام.

Exit mobile version