الاستشراق والتطلعات الاستعمارية- بقلم منصف بوزفور
الاستشراق مهما بدا موضوعيا أو متميزا إلا أنه يؤدي وظيفة للتطلعات الاستعمارية، وهكذا منذ الحرب العالمية الثانية لم يعد حقل الاستشراق هو الصعب بل الإنسان الشرقي هو الأكثر صعوبة.
ولقد اهتم “جاك بيرك” بهذا الوضع ونادى بمنهج المشاركة والتوغل، ولم تعد الانطباعية هي نقطة القوة لديه، فدور المستشرق الحديث يقوم على الفهم، والتحليل لن يكون فعّالا ويصل إلى الأعماق إلا بهذا المنهج.
ونذكر هنا أن الاستشراق علم خدماتي إذ بلا ريب يقدم خدمة للسياسة الغربية.
وإذا كان علم السياسة هو علم الدولة أو علم السلطة، فإن هذه الفعاليات التي تحدث في كثير من الأحيان خارج الدولة، وتمتاز بأنها سياسية، والاستشراق يقدم خدماته للسياسة.
إنها هذا العمل الذي أوقعنا في مأزق عدم تفرقته عن العمل الاجتماعي. وهي العمل الذي يتميز عن العمل الاقتصادي والإداري، والذي تصرف إليه في كل الحالات من زمرة آرائنا وملاحظاتنا وانتقاداتنا وتوجّهاتنا العامة والخاصة.
والشعوب لا شك تحيى هذا العمل وتمارسه، لأنها ليست ملزمة بأن تحسب عليها، حتى أبسط فعالياتها طالما كانت لا تمس القانون العام.
لقد قلنا أن الاستشراق يخدم التطلعات السياسية والاستعمارية الغربية، ولكن ليس معنى هذا أنه علم غير حضاري، ونعني بصفة الحضارية من أي علم، ومن علم الاستشراق خاصة، هي الصفة التي تحملها إنسانية المعرفة والتي تهتم بمعرفة الحضارات الإنسانية وتاريخها وبعلم الإنسان والفلسفات والآداب العالمية، وبالتاريخ في حد ذاته، من دون ربط هذا الاهتمام بخدمة معينة يؤدّيها للسياسة أو للاقتصاد، وإذّاك تحتكر المعرفة في حدّ ذاتها إلى خدمات نفعية آنية ومبتذلة كالخدمات التي يؤدّيها القرآن المترجم إلى التبشير وإلى الأدعياء الذين يحاولون أن يثبتوا أن الإسلام دين منتحل.
فهل يمكن أن نقول بعد هذا أن مثل هذه التراجم وهذه الأعمال أمور حضارية.
ولكن يبقى العمل السياسي وراء كل هذه المناورات، بل وراء الاستخفاف بما هو حضاري وبما هو إنساني عامة.
ويبقى الاستشراق مع صفة العلم الخدوم التي فيه، معرفة تمتاز بصفاتها الحضارية في حد ذاتها، فالذي يدرس لغة معينة شرقية يقدّم أداة خدوما، لكنه كذلك يقدم معرفة حضارية بلغة إنسانية وإنه لا يمكننا بحال الاستخفاف بالاستشراق بصفة عامة وتكريس كل الصفات الخبيثة فيه.
فهو علم غربي موجه للقارئ الغربي، كما هو إلى جانب الخدمات التي يؤدّيها، يؤدّي خدمة إلى المعرفة بصفة عامة، فمن الذي يشك في الخدمة التي قدّمها مكتشف الأحرف الهيروغليفية لحضارات الشرق القديمة.
يلزم إذن تقييم الاستشراق في حد ذاته لاعتباره أداة من أدوات اكتشاف الآخر للاستحواذ عليه.
هناك استشراق تقليدي واستشراق حديث، بمعنى لابد من العودة لآراء “جاك بيرك” و”ماكسيم رودنسون”. ونذكر هنا رأي العالم البيولوجي “جوزيف نيدهام” في خطأ المحورية الأوروبية وفي مسلّمتها الضمنية من أن كل ما هو أوروبي هو في الوقت نفسه شامل، لا لشيء إلا لأن العلم والتقنية الحديثة اللذين نشآ بالفعل في أوروبا عصر النهضة هما شاملان.
وإننا لنخاف اليوم نحن المسلمين والعرب أن نطبّق هذه المسلمة بحذافيرها على الاستشراق وحينذاك تبدو لنا المعرفة الشرقية الأوروبية هي معرفة موضوعية وشاملة ويقينية. وكثير منا من يؤمن بهذه المسلّمة، في حين أنها معرفة موجّهة للعقل لا للإيمان.